تابع القرآن أن يضل فى الدنيا ويشقى فى الآخرة). قال ابن عرفة : والعطف بالفاء فى قوله : (فَإِمَّا ..) إلخ ، إشارة إلى أن العداوة سبب فى أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق ، فضلا منه تعالى ، ولذلك أتى «بإن» ، دون «إذا» المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب. فانظره.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) ؛ عن القرآن ، أو عن الهدى الذاكر لى والداعي إلىّ ، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) : ضيقا ، مصدر وصف به ، ولذلك يستوى فيه المذكر والمؤنث ، يقال : منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ : «ضنكى» كسكرى. وإنما كان عيشه ضيقا ؛ لأن مجامع همته ، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا ، وهو متهالك على ازديادها ، وخائف من انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، فإنّ نور الإيمان يوجب له القناعة ، التي هى رأس الغنى وسبب الراحة ، فيحيى حياة طيبة. وقيل : هو عذاب القبر. وروى ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم. قال أبو سعيد الخدري : «يضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ...» الحديث ، وقيل : الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) : فاقد البصر كقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) (١). لا أعمى عن الحجة كما قيل. (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) فى الدنيا؟ (قالَ كَذلِكَ) أي : مثل ذلك فعلت أنت ؛ (أَتَتْكَ آياتُنا) أي : حجتنا النيرة على أيدى رسلنا (فَنَسِيتَها) أي : عميت عنها ، وتركتها ترك المنسى الذي لا يذكر قط ، (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) : تترك فى العمى والعذاب ، جزاء وفاقا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه ، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده ، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) (٢) ، فيوم القيامة ألوان. ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) وتعدى ؛ بالانهماك فى الشهوات ، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) ، بل كذّب بها وأعرض عنها ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) على الإطلاق ، أو عذاب النار ، (أَشَدُّ وَأَبْقى) من ضنك العيش ، أو منه ومن الحشر أعمى ، عائذا بالله من جميع ذلك.
الإشارة : قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب ، كالتكبر على عباد الله وتحقير شىء من خلق الله ، وكالاعتراض على مقادير الله ، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية : (أذنبت ذنبا فأنا أبكى منه أربعين سنة ، قيل : وما هو؟ قال : قلت لشىء كان : ليته لم يكن). وأما معصية
__________________
(١) من الآية ٩٧ من سورة الإسراء.
(٢) من الآية ٣٨ من سورة مريم.