يقول الحق جل جلاله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بما ذكر من أكل الشجرة (فَغَوى) أي : ضل عن مطلوبه ، الذي هو الخلود ، بل ترتب عليه نقيضه ، فكان تأميل ذلك باطلا فاسدا ؛ لأنه خلاف القدر ، أو عن الرشد ، حيث اغتر بقول العدو. وقال الكواشي : فعل فعلا لم يكن له فعله ، أو أخطأ طريق الحق ، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه ، فخاب ولم ينل مراده. ه. وفى وصفه عليهالسلام بالعصيان والغواية ، مع صغر زلته ، تعظيم لها ، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها.
(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) ، أي : اصطفاه وقرّبه إليه ، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفى التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ، مزيد تشريف له عليهالسلام ، يعنى : آدم. (فَتابَ عَلَيْهِ) أي : قبل توبته حين تاب هو وزوجته ، قائلين : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) (١) الآية. (وَهَدى) أي : هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليهالسلام بقبول توبته واجتبائه ؛ لأصالته فى الأمور ، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (٢).
(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) ، وهو استئناف بيانى ، كأنّ سائلا قال : فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل : قال له ولزوجته : (اهْبِطا مِنْها) أي : انزلا من الجنة إلى الأرض ، حال كونكم (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي : متعادين فى أمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف فى الدين. والجمع ؛ لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد. وفى اللباب : ولما أهبطوا إلى الأرض ألقى آدم يده تحت خده ، وبكى مائة سنة ، وألقت حواء يدها على رأسها ، وجعلت تصيح وتصرخ ، فبقيت سنة فى النساء. ولم يزل آدم يبكى حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع ، وجرى من عينيه على الأرض جدولان ، يجريان إلى قيام الساعة. وأهبط آدم على ورقة من ورق الجنة ، كان يتستر بها ، وفى يده قبضة من ريحان الجنة ، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياح فى أرض الهند ، فصار أكثر نباتها طيبا. انظر بقية كلامه.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : هداية من رسول وكتاب يهدى إلى الوصول إلىّ ، أي : سيأتيكم منى رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) بأن آمن بالرسل وبما جاءوا به من عند الله (فَلا يَضِلُ) فى الدنيا (وَلا يَشْقى) فى الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعنى : من اتبع هداى ، مع الإضافة إلى ضميره تعالى ؛ لتشريفه والمبالغة فى إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي الله عنه : (من قرأ الفرقان ، واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك لأن الله تعالى يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) (٣) ؛ أي : كتابى ورسولى ، (فَلا يَضِلُ) فى الدنيا ، (وَلا يَشْقى) فى الآخرة.) وفى لفظ آخر : (أجار الله
__________________
(١) من الآية ٢٣ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ٣٤ من سورة النساء.
(٣) أخرجه الطبري فى التفسير (١٦ / ٢٥٥) موقوفا ، وعزاه السيوطي فى الدر (٤ / ٥٥٦) لابن أبى شيبة والطبراني وأبى نعيم فى الحلية وابن مردويه ، مرفوعا.