ثم ردّ على من أنكر رسالة البشر ، فقال :
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))
يقول الحق جل جلاله فى جواب قول الكفرة : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١) بعد تقديم الجواب عن قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ؛ لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلابد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارا فى الكتاب العزيز ، كقوله (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ ..) (٢) الآية ، (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) الآية (٣). إلى غير ذلك ، فقال جل جلاله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) فى الأمم السالفة (إِلَّا رِجالاً) ؛ بشرا من جنس القوم الذين أرسلوا إليهم ؛ لأن مقتضى الحكمة أن يرسل البشر إلى البشر ، والملك إلى الملك ، حسبما نطق به قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٤) فإن عامة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك ؛ لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض ؛ فبعث لكل جنس ما يناسبه ؛ للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالا من البشر يوحى إليهم على أيدى الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، بواسطة الملك ، ما يوحى من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يوحى إليك من غير فرق بينهما ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهل العلم ؛ كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أمروا بذلك ؛ لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلىاللهعليهوسلم ، ويشاورونهم فى أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم.
__________________
(١) من الآية ٣ من سورة الأنبياء.
(٢) من الآية ٣٣ من سورة هود.
(٣) الآية ٨ من سورة الحجر.
(٤) الآية ٩٥ من سورة الإسراء.