لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حجبوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا فيه جسمه وصورته). فاستهزءوا بما لم يحيطوا بعلمه ، حال كونهم يقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ) أي : يعيب (آلِهَتَكُمْ) ، فالذكر يكون بخير وبضده ، فإن كان الذاكر صديقا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوا فهو ذم. (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي : بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، (هُمْ كافِرُونَ) ؛ لا يصدقون به أصلا ، فهم أحق بالهزء والسخرية منك ؛ لأنك محق وهم مبطلون. والمعنى أنهم يعيبون ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذكر آلهتهم ، التي لا تضر ولا تنفع ، بالسوء ، والحال : أنهم بذكر الرحمن ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، التي هى من مقتضيات رحمانيته ، كافرون ، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال ، أو : بما أنزل من القرآن ؛ لأنه ذكر الرحمن ، (هُمْ كافِرُونَ) ؛ جاحدون ، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ (هُمْ) للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر ، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، العجل والعجلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان : الجنس ، جعل لفرط استعجاله ، وقلة صبره ، كأنه خلق من العجلة ، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء : خلق منه ، تقول لمن يكثر منه الكرم : خلق من الكرم. ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. روى أنها نزلت فى النضر بن الحارث ، حين استعجل العذاب بقوله : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا ..) الآية (١) ، كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل ، فإنه مجبول على ذلك ، وطبعه ، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بالإنسان آدم عليهالسلام ، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. وروى : أنه لما دخل الروح فى عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، ولمّا وصل جوفه اشتهى الطعام ، فكانت العجلة من سجيته ، وسرت فى أولاده. وإنما منع الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه ، ليتكمل بعد النقص ، كما أمره بقطع الشهوة وقد ركّبها فيه ؛ لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. قال القشيري : العجلة مذمومة ، والمسارعة محمودة. والفرق بينهما : أن المسارعة : البدار إلى الشيء فى أول وقته ، والعجلة : استقباله قبل وقته ، والعجلة سمة وسوسة الشيطان ، والمسارعة قضية التوفيق. ه.
وقال الورتجبي : خلقهم من العجلة ، وزجرهم عن التعجيل ؛ إظهارا لقهاريته على كل مخلوق ، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العجلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. ه. قلت : مازالت الطمأنينة والرّزانة من شأن العارفين ، وبها عرفوا ، والعجل والقلق من شأن الجاهلين ، وبها وصفوا.
__________________
(١) الآية ٣٢ من سورة الأنفال.