كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت : قد استدل بعضهم ، بظاهر الآية والحديث ، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان ، ولا دليل فيه ؛ لأن المقصود من الآية : الاستدلال على كمال قدرته تعالى ، وعلى البعث الذي تنكره الكفرة ، لا بيان الهيئة ، وعدم وجودها نقصان ، ولا نقص فى الجنة.
ثم أكد الإعادة بقوله : (وَعْداً عَلَيْنا) أي : نعيده وعدا ، فهو مصدر مؤكد لغير فعله ؛ بل لما فى «نعيده» من معنى العدة ، أي : وعدنا ذلك وعدا واجبا علينا إنجازه ؛ لأنا لا نخلف الميعاد ، (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) لما ذكرنا لا محالة ، فاستعدوا له ، وقدّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.
الإشارة : إذا أشرقت على القلب شموس العرفان ، انطوت عن مشهده وجود الأكوان ، وأفضى إلى فضاء العيان ، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله ، وفى ذلك يقول الششترى رضى الله عنه :
لقد تجلى ما كان مخبى |
|
والكون كلّ طويت طى |
وهذا غاية من سبقت له من الله الحسنى ، فأشرقت عليه أنوار التوجه فى البداية ، وأنوار المواجهة فى النهاية ، فزاحت عنه الأكوان ، وفاضت عليه بحار أسرار العرفان ، فصار يتصرف بهمته فى الوجود بأسره ، كما قال تعالى :
(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) كتاب داود عليهالسلام ، (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : التوراة ، أو اللوح المحفوظ ، (أَنَّ الْأَرْضَ) أي : جنس الأرض ، يعنى : مشارقها ومغاربها ، (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهم أمة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، ففى الآية ثناء عليهم وبشارة لهم ، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره فى الوجود ؛ من فتح الله على هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها ، كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). وقال القشيري : على قوله : (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) : هم أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته ، وهم المطيعون ، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. ه.
قال فى الحاشية الفاسية : والظاهر أن حديث : «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله» ، مفسر للآية ، وموافق لوعدها. قيل : وهذه الطائفة مفترقة من أنواع المؤمنين ، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له ؛ من شجعان مقاتلين ، وفقهاء ومحدّثين ، وزهاد وصالحين ، وناهين وآمرين
__________________
(١) من الآية ٥٥ من سورة النور.