ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي : قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه ، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره ، قال بعد ذلك : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، نبه بهذا على أن كل ما سواه ، وإن كان موجودا ؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه ؛ لأنه مسخر ومصرف ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق ، الغنى المطلق ، وإنّ وجود كل موجود من وجوب وجوده ، ولهذا قال فى آخر السورة : (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) (١) ، والحق هو الوجود الثابت ، الذي لا يزول ولا يتغير ، وهو الله تعالى. ثم قال عن الزجاج : (ذلك) فى موضع رفع ، أي : الأمر ما وصف لكم وبيّن ؛ لأن الله تعالى هو الحق ، ويجوز كونه فى موضع نصب ، أي : فعل ذلك بأن الله هو الحق ، قادر على ما أراد. ه.
وذلك أيضا شاهد بأنه (يُحْيِيَ الْمَوْتى) كما أحيا الأرض ، مرة بعد أخرى ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : مبالغ فى القدرة ، وإلّا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر ، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها ؛ للتصريح بما فيه النزاع ، وللطعن فى نحور المنكرين. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) : قادمة عليكم ، (لا رَيْبَ فِيها) ، وإيثار اسم الفاعل على الفعل ؛ للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره البتّة. ومعنى نفى الريب عنها : أنها ، فى ظهور أمرها ووضوح دلائلها ، بحيث ليس فيها مظنة الريب ، (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ؛ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به ، وهو لا يخلف الميعاد ، والتعبير ب «من فى القبور» : خرج مخرج الغالب ، وإلّا فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة : يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية ، وظهور أهل الخصوصية فى زمانهم ، الذين يحيى الله الأرواح الميتة ، بالجهل والغفلة ، على أيديهم ؛ إن كنتم فى ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم ، فمن فعل ذلك وقدر عليه ، قدر أن يحيى النفوس الميتة بالغفلة فى كل زمان. وفى الحكم : «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شىء مقتدرا». وجرت عادته أنه لا يحييها فى الغالب إلا على أيدى أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة ، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة ، وهى الواردات الإلهية ، وأسقيناها الخمرة القدسية ، اهتزت فرحا بالله ، وربت ، وارتفعت بالعلم بالله ، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم ، ما تبهج منه العقول ، ذلك شاهد بوحدانية الحق ، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.
__________________
(١) من الآية ٦٢ من سورة الحج.