يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله ، قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله ، قال : هذا الدين سوء» (١). وكأن الحق تعالى سلك فى الآية مسلك التدلي ، بدأ بالكافر المصمم ، يجادل جدالا مجملا ، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني : مقلد مجادل ، من غير دليل ولا برهان ، والثالث : كافر أسلم إسلاما ضعيفا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم ، بقوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.
ثم كمّل حال المذبذب بقوله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي : دنيوى ؛ من الصحة فى البدن ، والسعة فى المعيشة ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا ، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين ، الذين لا يلويهم عنه صارف ، ولا يثنيهم عنه عاطف. (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) : بلاء فى جسده ، وضيق فى معيشته ، أو شىء يفتتن به ، من مكروه يعتريه فى بدنه أو أهله أو ماله ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : ارتد ورجع إلى الكفر ، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت فى أعاريب قدموا المدينة ، مهاجرين ، فكان أحدهم إذا صحّ بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا ، وولدت امرأته غلاما سويا ، وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت ، مذ دخلت فى دينى هذا ، إلا خيرا ، واطمأن ، وإن كان الأمر خلافه ، قال : ما أصبت إلا شرّا ، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى الله عنه : أنّ يهوديا أسلم فأصابته مصائب ، وتشاءم بالإسلام ، فأتى النّبى صلىاللهعليهوسلم فقال : أقلنى ، فقال : «إنّ الإسلام لا يقال» ، فنزلت (٢).
(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) : فقدهما ، وضيعهما ؛ بذهاب عصمته ، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب : خاسر ، على الحال. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ؛ الواضح ، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيّن وجه خسرانه بقوله : (يَدْعُوا) أي : يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : متجاوزا عنه تعالى ، (ما لا يَضُرُّهُ) إذا لم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) إذا عبده. (ذلِكَ) الدعاء (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي : التلف البعيد عن الحق.
(يَدْعُوا) أي : يعبد (لَمَنْ ضَرُّهُ) أي : الصنم الجامد الذي ضرره (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ). وقرأ ابن مسعود : «يدعو من ضره» ، بحذف اللام. أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزى : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب : أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها ، وهى لا تفعل شيئا ، والضر الثاني ، الذي أثبته لها ، يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. ه. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : الناصر ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي : الصاحب. أو : يدعو ويصرخ يوم القيامة ، حين يرى استضراره بالأصنام ، ولا يرى لها أثر الشفاعة ، ويقول لمن ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الحج) عن ابن عباس رضى الله عنه.
(٢) ذكره الواحدي فى الأسباب (٣١٧) ، بدون إسناد ، عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدري.