الإشارة : ومن الناس من يعبد الله على حرف ؛ على طرف من الدين ، غير متمكن فيه ، فإنه أصابه خير ، وهو ما تسر به النفس من أنواع الجمال ، اطمأن به ، وإن أصابته فتنة ، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال ، انقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله على طمع فى الجزاء الدنيوي أو الأخروى ، فإن أصابه خير فرح واطمأن به ، وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف ، أي : حالة واحدة ، فإن أصابه خير ؛ كقوة ونشاط وورود حال ؛ اطمأن به وفرح ، وإن أصابته فتنة ؛ كضعف وكسل وذهاب حال ، انقلب على وجهه ، ورجع إلى العمومية ، أو وقف عن السير ، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا : ما يفوته من عز الله ونصره لأوليائه ، وحلاوة برد الرضا والتسليم ، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة : ما يفوته من درجة المقربين ، ودوام شهود رب العالمين. فالواجب على العبد أن يكون عبدا لله فى جميع الحالات ، لا يختار لنفسه حالا على حال ، ولا يقف مع مقام ولا حال ، بل يتبع رياح القضاء ، ويدور معها حيث دارت ، ويسير إلى الله فى الضعف والقوة.
قال بعضهم : سيروا إلى الله عرجى ومكاسير. وفى الحكم : «إلهى ؛ قد علمت ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار ، أن مرادك منى أن تتعرف إلىّ فى كل شىء ، حتى لا أجهلك فى شىء». وقال أيضا : «لا تطلبن بقاء الواردات ، بعد أن بسطت أنوارها ، وأودعت أسرارها ، فلك فى الله غنى عن كل شىء ، وليس يغنيك عنه شىء». فكن عبد المحوّل ، ولا تكن عبد الحال ، فالحال تحول وتتغير ، والله تعالى لا يحول ولا يزول ، فكن عبدا لله ، ولا تكن عبدا لغيره.
لكلّ شىء ، إن فارقته ، عوض |
|
وليس لله ، إن فارقت من عوض |
ثم شفع الحق تعالى بضد ما ذكره قبل ، فقال :
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وتمكنوا من الإيمان ، وعبدوا الله وحده فى جميع الحالات ، ولم يعبدوه على حرف ، (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى فى جميع الحالات ، وأنّ الله تفضل عليهم ، بما لا غاية وراءه ، إثر بيان سوء حال الكفرة ، من المجاهرين والمذبذبين ، وأنّ معبودهم لا ينفعهم ،