وقال فى الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا ، وبذلها ؛ إيثارا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق. فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، والتقوى هاهنا عمل القلب ، من نية القربة ، وإرادة الخير ، وإخلاص القصد لله ، وهو المقصود ، وعمل الظاهر مؤكد له ، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله ؛ فإنّ الطاعات غذاء القلوب ، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى ، والتنعم بها ، وذلك فرع محبته والأنس به ، ولا يكون إلّا بذكره ، ولا يفرغ إلا بالزهد فى الدنيا ، وترك شواغلها ، والانقطاع عنها. ه.
ومن كانت هذه صفته كان من المحسنين ، الذين يدفع الله عنهم المكارة والعوائق ، كما قال تعالى:
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) يدفع غائلة المشركين (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شىء من عبادة الله ، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، وصيغة المفاعلة : إمّا للمبالغة ، أو للدلالة على تكرير الدفع ، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين ، فيبقى تكرره من جانب واحد ، كما فى المحارسة ، أي : يبالغ فى دفع ضرر المشركين وشوكتهم ، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله ، مبالغة من يغالب فيه ، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى ، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين ، كما فى قوله : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (٢). وقرأ المكي والبصري : (يُدافِعُ).
ثم علل ذلك الدفع بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي : لأنّ الله يبغض كل خوان فى أمانة الله تعالى ، وهى : أوامره ونواهيه ، ومن أعظمها : الإيمان بالله ورسوله. أو فى جميع الأمانات ، كفور لنعم الله. والمعنى : إن الله يدافع عنهم ؛ لأنه يبغض أعداءهم ، وهم : الخونة الكفرة ، الذين يخونون الله والرسول ، ويخونون أماناتهم. وصيغة المبالغة فيها ؛ لبيان أنهم كذلك فيهما ، لا لتقييد البعض بغاية الجناية ؛ فإن الخائن ممقوت مطلقا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يدفع عن أوليائه ، والمتوجهين إليه ، كل عائق وشاغل ، وغائلة كل غائل ، الذين حازوا ذروة الإيمان ، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان. فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور ، (إن الله لا يحب كل خوّان كفور).
__________________
(١) من الآية ٥١ من سورة غافر.
(٢) من الآية ٦٤ من سورة المائدة.