وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : لكم فى هذه التجليات ، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها ، منافع ، ترعون من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها ، فتزدادوا معرفة وتكميلا ، إلى أجل مسمى ، وهو مقام التمكين ، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة ، فتكون الأنوار له ، لا هو للأنوار ، لأنه لله لا لشىء دونه ، (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (١). ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة ، فحيئنذ يستغنى بالله عن كل ما سواه. وقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة ، والوصول واحد ؛ ولذلك قال : (فإلهكم إله واحد). وقال القشيري : الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف. ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويثيبهم ، (فله أسلموا) : استسلموا لحكمه ، من غير استكراه من داخل القلب ولا من اللفظ. ه.
وقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ ...) الآية. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات ، وزمها بالرياضات عن المخالفات ، وفناء الوجود للمشاهدات ، حتى لا يبقى للعارف فى طريقة حظ من حظوظه ، ويبقى لله مفردا من جميع الخلائق. ه.
وفى قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه ، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدا. فإذا ماتت وسقطت جنوبها ، وظفرتم بها ؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها ؛ لأن النفس ، إذا ماتت ، حييت الروح ، وفاضت عليها العلوم اللدنية ، فكلوا منها ، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم. وقوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها ..) الآية ، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى ، لا يلحق الحق بحق المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته ، ذبح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه. قال سهل فى قوله : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) : هو التبري والإخلاص. ه.
قال القشيري : لا عبرة بإظهار الأفعال ، سواء كانت بدنية أو مالية صرفا ، أو مما يتعلق بالوجهين ، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص ، فاذا انضاف إلى الجوارح إخلاص القصود ، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها الأغيار ، صلحت للقبول ، وينال صاحبها القرب ، بشهود الحق بنعت التفرد. ثم قال : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع ، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، الإحسان ، كما فى الخبر : «أن تعبد الله كأنك تراه». وأمارة صحته : سقوط تعب القلب عن صاحبه ، فلا يستثقل شيئا ولا يتبرم بشىء. ه. قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر ؛ لأنه طبع بشرى ، وإنما يضر ما سكن فى القلب.
__________________
(١) من الآية ٩١ من سورة الأنعام.