(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها) أي : كثيرا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم ، قد أمهلتهم حينا وأمليت لهم ، كما أمليت لكم ، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال. والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة. (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي : المرجع إلىّ ، فلا يفوتنى شىء من أمر المستعجلين وغيرهم ، أو : إلى حكمى مرجع الكل ، لا إلى غيرى ، لا استقلالا ولا شركة ، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : عمى القلوب هو انطماس البصيرة ، وعلامة انطماسها أمور : إرسال الجوارح فى معاصى الله ، والانهماك فى الغفلة عن الله ، والوقيعة فى أولياء الله ، والاجتهاد فى طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله. وفى الحكم : «اجتهادك فيما ضمن لك ، وتقصيرك فيما طلب منك ، دليل على انطماس البصيرة منك». وعلامة فتحها أمور : المسارعة إلى طاعة الله ، واستعمال المجهود فى معرفة الله ، بصحبة أولياء الله ، والإعراض عن الدنيا وأهلها ، والأنس بالله ، والغيبة عن كل ما سواه. واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان فى أصل نشأتهما ، فالبصر لا يبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة ، والبصيرة لا تبصر إلا المعاني القديمة الأزلية ، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقا عن الله ، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة. وفى ذلك يقول المجذوب رضى الله عنه :
من نظر الكون بالكون ؛ غرّه : فى عمى البصيرة. |
|
ومن نظر الكون بالمكون : صادق ، علاج السريرة |
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر ، فانعكس نور البصر إلى البصيرة ، فلا يرى العبد إلا أسرار المعاني الأزلية ، المفنية للأوانى الحادثة ، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعلاج انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله ، يقدحها له بمرود التوحيد ، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال ، ثم توحيد الصفات ، ثم توحيد الذات ، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يشهد قرب الحق من العبد ، وتوحيد الذات يشهد عدمه لوجود الحق ، وهو الذي أشار إليه فى الحكم بقوله : «شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شىء معه ، وهو الآن على ما عليه كان». فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون ، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفى ذلك يقول الحلاج :
قلوب العارفين لها عيون |
|
ترى ما لا يرى للنّاظرينا |
وأجنحة تطير بغير ريش |
|
إلى ملكوت ربّ العالمينا |
وألسنة بأسرار تناجى |
|
تغيب عن الكرام الكاتبينا |