يقول الحق جل جلاله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ) : شك (مِنْهُ) ؛ من القرآن ، أو الصراط المستقيم ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) : فجأة ، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) ، وهو عذاب يوم القيامة ، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو عذابها ، فزاد «اليوم العقيم» ؛ لمزيد التهويل. واليوم العقيم : الذي لا يوم بعده ، كأنّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيما. وقيل : اليوم العقيم : يوم بدر ، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرح أو راحة ، كالريح العقيم ؛ لا تأتى بخير ، أو لأنه لا مثل له فى عظم أمره ؛ لقتال الملائكة فيه ، ولكن لا يساعده ما بعده ، من قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي : السلطان القاهر ، والتصرف التام ، يومئذ لله وحده ، ولا منازع له فيه ، ولا تصرف لأحد معه ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولا صورة ولا معنى ، كما فى الدنيا ، فإنّ للبعض فيه تصرفا مجازيا صوريا. (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان.
ثم بيّن حكمه فيهم ، فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن الكريم ولم يماروا فيه ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) امتثالا لما أمر به فى تضاعيفه (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالقرآن وشكوا فيه ، أو بالبعث والجزاء ، (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن ، (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، يهينهم ويخزيهم.
ثم خص قوما من الفريق الأول بفضيلة ، فقال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : خرجوا من أوطانهم مجاهدين ، (ثُمَّ قُتِلُوا) فى الجهاد ، (أَوْ ماتُوا) حتف أنفهم ، (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان. ومراتب الحسن متفاوته ، فيجوز تفاوت حال المرزوقين ، حسب تفاوت أرزاق الجنة. روى أن بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قالوا : يا نبى الله ؛ هؤلاء الّذين قتلوا فى سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا معك؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا ...) الآيتين. وقيل : نزلت فى طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة ، فتبعهم المشركون فقتلوهم.
ثم قال تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، فإنه يرزق بغير حساب ، مع أنّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره ، (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ، وهو الجنة ؛ لأنّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، قيل : لمّا ذكر الرزق ذكر المسكن ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) ، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدا ، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدا ، حليم بإمهال من قاتلهم معاندا.
الإشارة : من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين ، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام ، حتى يلقى الله بقلب سقيم ، فيفضى إلى الهوان المقيم. والذين هاجروا فى طلب محبوبهم لتكميل يقينهم ، ثم قتلوا قبل الوصول ، أو ماتوا بعد الوصول ، ليرزقنهم الله جميعا رزقا حسنا ، وهو لذة الشهود والعيان ، فى مقعد صدق مع