وتحزبوا أحزابا ، (كُلُّ حِزْبٍ) من أولئك المتحزبين (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين الذي اختاروه ، أو من الهوى والرأى ، (فَرِحُونَ) : معجبون ، يعتقدون أنه الحق.
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) ؛ فى جهالتهم وغفلتهم ، شبّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة ؛ لأنهم مغمورون فيها ، سابحون فى بحر الجهالة ، والخطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم ؛ إيذانا بأنهم مطبوع على قلوبهم ، أي : اتركهم على حالهم (حَتَّى حِينٍ) : حتى نأمرك فيهم بما شئت من الجهاد أو غيره ، أو : إلى أن يقتلوا أو يموتوا على الكفر ، أو : إلى وقت حلول العذاب بهم. فهو تهديد وتسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونهى عن استعجال عذابهم ، وفى التنكير والإبهام مالا يخفى من التهويل.
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أي : نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم ، (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) ؛ «من» : بيان ، أي : أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين ، (نُسارِعُ لَهُمْ) بذلك (فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنه استدراج ، قيل : استدراك لقوله : (أَيَحْسَبُونَ) أي : بل هم أشباه البهائم ، لا شعور لهم حتى يتأملوا فى ذلك ، هل هو استدراج أو مسارعة فى الخيرات؟ وحاصل المعنى : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة لهم فى الخيرات ، ومعاملة لهم بالثواب ، جزاء على حسن صنيعهم.
وهذه الآية حجة على المعتزلة فى مسألة الأصلح ؛ لأنهم يقولون : إن الله ـ تعالى ـ لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له فى الدين ، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح ، والله تعالى أعلم.
الإشارة : تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات ، مباح فى الشرع قديما وحديثا ، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر ؛ لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده ؛ ليشكروه ويحمدوه ، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان ، الذي لا يفنى ولا يزول ، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة ، قال تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (١). هذا باعتبار عامة المسلمين ، وأما الخاصة ؛ من العبّاد والزهاد والمريدين السائرين ، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس ، ويتعلق به القلب ؛ خوفا من الاشتغال بذلك عن العبادة أو السير ؛ لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر ، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن الله ، وتفتّر عن السير ، وتكبّل عن النهوض إلى الحضرة. ولذلك قال فى الحكم : «كيف يشرق قلب : صور الأكوان منطبعة فى مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبّل بشهواته؟ أم كيف يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟» وقال بعضهم : لدغ الزنابير على الأجسام المقرحة ، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة. ه.
__________________
(١) من الآية ٣٨ من سورة التوبة.