(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) بأن كان فى الواقع آلهة شتى ؛ (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) كما تقدم فى قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) ، فالاتباع هنا مجاز ، أي : لو جاء الوحى على ما يشتهون لفسدت السموات ، فالحق هنا هو المذكور فى قوله : (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) ، والمعنى : لو كان ما كرهوه من الحق ، الذي من جملته ما جاء به صلىاللهعليهوسلم ، موافقا لأهوائهم الباطلة ؛ لفسد نظام العالم ، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبّر بمن ؛ لأنّ غيرهم تبع.
(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) : بشرفهم ، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢) ؛ لأن الرسول منهم ، والقرآن لغتهم ، أو بتذكيرهم ووعظهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون : (لو أن عندنا ذكرا من الأولين) (٣) ، (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي : فهم ، بما فعلوا من النكوص ، عن فخرهم وشرفهم معرضون ، وهذا مما جبلت عليه النفوس الأمّارة ؛ الإعراض عما فيه خيرها ، والرغبة فيما فيه هلاكها ، إلا من عصم الله ، وفى إسناد الإتيان إلى نون العظمة ، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، من التنويه بشأن النبي صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى. انظر أبا السعود.
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) ، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم : (أم يقولون به جنّة) ، إلى التوبيخ بوجه آخر ، كأنه قال : أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة (خَرْجاً) أي : جعلا ، فيتهمونك ، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون ، (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي : رزقه فى الدنيا ، وثوابه فى الآخرة ، خير لك من ذلك ؛ لدوامه وكثرته ، أي : لا تسألهم ذلك ؛ فإن ما رزقك الله فى الدنيا والعقبى خير لك من ذلك ، وفى التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، من تعليل الحكم وتشريفه صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى.
والخرج والخراج واحد ، وهو : الأجر المأخوذ على العمل ، ويطلق على الغلة والضربية ، كخراج العبد والأرض ، وقال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخراج والخرج ، فقال : الخراج مالزمك ، والخرج ما تبرّعت به ، وقيل : الخرج أخص من الخراج ؛ لأنّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة ، أو أجرة ، أو زكاة ، والخرج خاص بالأجرة ، وفى الخراج إشعار بالكثرة ، فلذلك عبّر به فى جانبه ـ تعالى ـ والمعنى : أم تسألهم ، على هدايتك لهم ، قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) : أفضل المعطين.
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة باستقامته ، ليس فيه شائبة اعوجاج ، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه ، ولقد ألزمهم الله ـ تعالى ـ الحجة ، وأزاح عللهم فى هذه الآيات ، حيث حصر أقسام ما يؤدى إلى الإنكار والاتهام من قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ...) إلى هنا ، وبيّن انتفاءها ، ولم يبق إلا كراهة الحق
__________________
(١) من الآية ٢٢ من سورة الأنبياء.
(٢) من الآية ٤٤ من سورة الزخرف.
(٣) كما حكى القرآن عنهم فى الآية ١٦٨ من سورة الصافات.