وهو بعيد ؛ لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلىاللهعليهوسلم ؛ للحكمة الداعية إليه ، وكانوا يضحكون ، استهزاء بهذا الوعد ، وإنكارا له ، فقال لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هى أحسن ، وهو الصفح عنها والإحسان فى مقابلتها ، لكن بحيث لا يؤدى إلى وهن فى الدين وإهانة له. وقيل : السيئة : الشرك ، والتي هى أحسن : كلمة التوحيد ، وقيل : السيئة : المنكر ، والتي هى أحسن : النهى عنه ، وقيل : هى منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة ؛ إذ المداراة مأمور بها. قال ابن عطية : أمر بمكارم الأخلاق ، وما كان منها بهذا المعنى ، فهو محكم باق فى الأمة أبدا ، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال. ه.
وهذا التركيب أبلغ من «ادفع بالحسنة السيئة» ؛ لما فيه من التنصيص على التفضيل ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول ؛ للاهتمام. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) من الشرك والولد ، أو بما يصفك به ، مما أنت على خلافه ، من السحر وغيره ، فسنجازيهم عليه ، وفيه وعيد لهم ، وتسلية لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه.
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي : وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن ، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة ، وأصل الهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابّ على الإسراع والوثب. وجمع همزات ؛ لتنوّع الوساوس وتعدد المضاف إليه ، (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، والتعوذ من أن يحضروه أصلا فى حال من الأحوال ؛ مبالغة فى التحذير من ملابستهم ، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة ، أو عند النزع ؛ تشريعا. وإعادة الفعل ، مع تكرير النداء ؛ لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به.
ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك ، (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي : لا يزالون مشركين حتى يموتوا ، فحتى ، هنا ، ابتدائية ، دخلت على جملة الشرط ، وهى متعلقة بيصفون ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء ، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه ؛ لفساد المعنى ، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك ، أي : تنزيها له تعالى عما يصفون ، ويستمرون على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحدا منهم الموت الذي لا مرد له ، وظهرت له أحوال الآخرة ، (قالَ) ؛ تحسرا على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة : (رَبِّ ارْجِعُونِ) أي : ردنى إلى الدنيا ، والواو ؛ لتعظيم المخاطب ، كخطاب الملوك ، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي : فى الإيمان الذي تركته ، أو فى الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة ؛ وهو الدنيا ؛ لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى.