ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وعدوا بالطاعة والإيمان. قال القرطبي : طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت.
ثم يجيبهم الحق تعالى ، بعد ألف سنة ، بقوله : (قالَ اخْسَؤُا فِيها) أي : اسكتوا فى النار سكوت ذل وهوان ، وانزجروا انزجار الكلاب ، يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ، فخسأ ، أي : انزجر. (وَلا تُكَلِّمُونِ) باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا ، أو فى رفع العذاب عنكم ؛ فإنه لا يرفع ولا يخفف ، روى أنه آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون (١). قيل : ويرده الخطابات الآتية ، وقد يجاب : بأنها قبل هذه الكلمة.
ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله : (إِنَّهُ) أي : الأمر والشأن (كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وهم المؤمنون ، أو الصحابة ، أو أهل الصفة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ (يَقُولُونَ) فى الدنيا : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي : هزوا ، وهو مصدر سخر ، زيدت فيه ياء النسب ؛ للمبالغة ، وفيه الضم والكسر. وقال الكوفيون : المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة ، بمعنى الانقياد للخدمة ، ولذلك اتفق عليه فى الزخرف (٢) ، أي : اتخذتموهم ؛ مهزوا بهم ، وتشاغلتم بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم ، ولم تخافونى فى أوليائى ، (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) ، وذلك غاية الاستهزاء.
قال تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ) جزاء على صبرهم على أذاكم ، (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) بكل مطلوب دونكم ، فأنهم : مفعول «جزيتهم» ؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة بالكسر ؛ على الاستئناف ؛ تعليلا للجزاء ، وبيانا أنه فى غاية الحسن ، (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) ، القائل هو الله تعالى ، أو الملك ، وقرأ المكي وحمزة : «قل» ؛ التي بلفظ الأمر للملك ، يسألهم : كم لبثوا ، (فِي الْأَرْضِ) التي دعوا الله أن يردهم إليها ، (عَدَدَ سِنِينَ) ، وهو تمييز ، أي : كم لبثتم فى الأرض من عدد السنين ، (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم ، ولما هم فيه من عذابها ؛ لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ، (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : المتمكنين من العد ؛ فإنا بما دهمنا من العذاب بمعزل من العد ، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم.
(قالَ) الله تعالى ، أو الملك ، تصديقا لهم فى مقالهم : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) : ما لبثتم إلا زمانا قليلا ، أو لبثا قليلا بالنسبة لما بعده ، (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شيئا ، أو : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها ، فالجواب محذوف. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٥ / ٤٣١) عن الحسن.
(٢) فى قوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ..) الآية ٣٢ من سورة الزخرف.