الذي قدره فى الأزل ، واقتضته الحكمة الإلهية ، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب ، وقد سبق فى العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان ، أو يراد بالحق : العذاب ، ويؤيده قوله : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ؛ أي : ولو نزلت الملائكة لعوجلوا ، وما كانوا ، إذا نزلت ، مؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزول الذكر واستهزاءهم ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ؛ أي : القرآن ، وأكده بأن وضمير الفصل ، وحفظه بعد نزوله ، كما قال : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التحريف ، والزيادة والنقص ، بأن جعلناه معجزا ، مباينا لكلام البشر ، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري : نزل التوراة ، ووكل حفظها إلى بنى إسرائيل ، بما استحفظوا من كتاب الله ، فحرّفوا وبدّلوا ، وأنزل القرآن ، وأخبر أنه حافظه ، فلا جرم أنه كتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال : إنه أخبر أنه حافظ القرآن ، وإنما يحفظه بقرائة ، فقلوب القرّاء هى خزائن كتابه ؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه ، فإن فى ذلك تضييع كتابه. ه.
وقال ابن عطية على قوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (١) : ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم ، وأن ذلك ممكن فى التوراة ؛ لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن فى القرآن ؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. ه.
الإشارة : كل ما جاء فى القرآن من الإنكار على الرسل على أيدى الكفرة وتنقيصهم ، والاستهزاء بهم ، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل فى جانبه ؛ كقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) (٢) ، وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٣) ، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل ، فكأن الحق تعالى يقول : لو سلم أحد من الناس ، لسلمت أنا وأنبيائى ، الذين هم خاصة خلقى ، فليكن بي وبرسلى أسوة لمن أوذى من أوليائى. وبالله التوفيق.
ثم تمم تلك التسلية ، فقال :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))
__________________
(١) من الآية ٧٥ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ١٨١ من سورة آل عمران.
(٣) من الآية ٦٤ من سورة المائدة.