يقول الحق جل جلاله فى تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا (فِي شِيَعِ) : فرق (الْأَوَّلِينَ) أي : القرون الماضين ، جمع شيعة ، وهى : الفرقة المتفقة على طريق واحد ، وتتشيع لمذهب أو رجل ، من شاعه إذا تبعه ، أي : نبأنا رجالا فيهم ، وجعلناهم رسلا إليهم ، فكذبوهم واستهزءوا بهم ، فكانوا : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي : ندخل الاستهزاء (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ). والسلك : إدخال الشيء فى الشيء كالخيط فى المخيط ، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل فى قلوبهم. وإذا سلك فى قلوبهم التكذيب (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أبدا. أو : نسلكه ، أي : القرآن ؛ مستهزءا به ، أي : مثل ذلك السلك نسلك الذكر فى قلوب المجرمين ؛ مكذّبا غير مؤمن به ، ثم هددهم على عدم الإيمان به ، فقال : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي : تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء ، حتى هلكوا بسبب ذلك ، أو مضت سنته فى الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم ، فيكون وعيدا لأهل مكة.
(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش ، (باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) : يصعدون إليها ، ويرون عجائبها طول نهارهم ، لكذبوا ، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا ؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم فى الحق : (إِنَّما سُكِّرَتْ) : حيرت (أَبْصارُنا) ، فرأينا الأمر على غير حقيقته ؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر بفتح السين ، وهو السد ، أي : سدّت أبصارنا ، ومنعنا من الرؤية الحقيقية. (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ؛ سحرنا محمد ، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي : وفى كلمتى الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل خيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. ه. وذلك من فرط عنادهم ، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة : هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية ، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء ، فيرجعون إلى الله ، والاكتفاء بعلمه ، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى الله عنه : عداوة العدو حقا هى اشتغالك بمحبة الحبيب ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدى أبو القاسم الخصاصى رضى الله عنه لبعض تلامذته : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، فإنه هو الذي حركه عليك ، ليختبر دعواك فى الصدق. وقد غلط فى هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم ، وكفاهم أمرهم. ه.