ثم دلهم على المعجزة الحقيقية ، التي تدلهم على التوحيد الذي فيه نجاتهم ، فقال :
(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) ؛ اثنى عشر برجا ، وهى : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت ، والبرج عبارة عن قطعة فى الفلك تقطعها الشمس فى شهر ؛ فتقطع البروج كلها فى سنة ، ستة يمانية ، وستة شمالية ، وهى مختلفة الهيئات والخواص ، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى : (وَزَيَّنَّاها) بالأشكال والهيئات البهية (لِلنَّاظِرِينَ) المعتبرين ؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ، وتوحيد صانعها. (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : مرجوم ، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها ، أو يوسوس أهلها ، أو يتصرف فى أمرها ، أو يطلع على أحوالها.
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي : حفظناها من الشياطين ، إلا من استرق منها. والاستراق : الاختلاس ، روى أنهم يركبون بعضهم بعضا حتى يصلوا إلى السماء ، فيسمعون أخبار السماء من الغيب ، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة ، ويخلط معها مائة كذبة ، كما فى الصحيح. وروى عن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليهالسلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلىاللهعليهوسلم منعوا من كلها بالشهب. وقيل : الاستثناء منقطع ، أي : ولكن من استرق السمع ، (فَأَتْبَعَهُ) لحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) ؛ ظاهر للمبصرين. والشهاب : شعلة نار يقتبسها الملك من النجم ، ثم يضرب به المسترق ، وقيل : النجوم هى التي تضرب بنفسها ، فإذا أصابت الشيطان قتلته أو خبلته فيصير غولا.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) : بسطناها ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ؛ جبالا ثوابت ، (وَأَنْبَتْنا فِيها) ؛ فى الأرض ، أو فيها وفى الجبال (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) ؛ مقدر بمقدار معين تقتضيه