مع اتفاق الماء الذي تسقى به. وذلك مما يدل أيضا على الصانع القادر الحكيم ، فإن إيجادها ، مع اختلاف الأصول والأسباب ، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار ، فيدركون عظمة الواحد القهار.
الإشارة : ذكر أولا سماء الأرواح ، وما يناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وذكر هنا أرض النفوس ، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم ، فقال : وهو الذي مد أرض النفوس ، وجعل فيها جبالا من العقول الشامخة ، حتى أدركت الصانع ، وتحققت بوجوده ووحدانيته ، بالدلائل الواضحة ، والبراهين القطعية. وأنبع منها أنهارا من العلوم الرسمية ، والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف ؛ من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين : قبضا وبسطا ، منعا ووجدا ، ذلا وعزا ، فقرا وغنى. يغشيانها غشاء الليل للنهار ؛ فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط ، فيزيله ، وإذا كان المنع ، غشيه الوجد ، وإذا كان الذل غشيه العز ، وإذا كان الفقر غشيه الغنى ، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال.
وفى أرض النفوس أيضا قطع متجاورة ، مع اختلاف ألوانها وطبائعها ، وعلومها ومعارفها ، ومواجدها وألسنتها. وفيها أيضا جنات المعارف ـ إن اتصلت بطبيب عارف ـ من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل ، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل ، ونخيل الأذواق والوجدان ، صنوان وغير صنوان ـ يعنى من تعتريه الأحوال ، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه ، تسقى بخمرة واحدة ، وهى الخمرة الأزلية ، على أيدى الوسائط ، أو بلا وسائط ، وهو نادر. ونفضل بعضها على بعض فى الأذواق والوجدان ؛ فترى العارفين بعضهم قطب فى الأحوال ، وبعضهم قطب فى المقامات ؛ كان الجنيد رضى الله عنه قطبا فى العلوم ، وكذا الشاذلى والجيلاني والغزالي ، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطبا فى الأحوال ، وكان سهل التستري قطبا فى المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم ، كل واحد وما يغلب عليه ، مع مشاركته لغيره فى الثلاث (١). والله تعالى أعلم.
ولما ذكر دلائل قدرته ذكر وعيد من أعرض عنها حتى أنكر البعث ، فقال :
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))
__________________
(١) هذه الإشارة ينبغى أن تتضمن توجيها : لدراسة الكون دراسة علمية ؛ والاستفادة فى ذلك فى إعمار الأرض ، وإنقاذ المسلمين من التخلف العلمي والحضارى ، ومن التبعية لحضارة الغرب المادية ؛ فانظر إلى قوله تعالى : (يتفكرون) ، (يعقلون) ومتعلقهما ، أعنى : الأرض ، والرواسي ، والأنهار ، والنبات ، والري .. وغير ذلك ، كيف غفلنا نحن المسلمين عن التفكر ، والتعقل فى هذه الموضوعات؟ وما العلم الطبيعي إلا مبنى على هذا الأصل ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.