قال له تعالى لمّا امتنع واستكبر : (فَاخْرُجْ مِنْها) أي : من السماء ، أو من الجنة ، أو من زمرة الملائكة ، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : مطرود من الخير والكرامة ؛ فإنّ من يطرد يرجم بالحجر ، أو شيطان يرجم بالشهب ، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته ، أي : ليس الشرف بالأصل ، إنما الشرف بالطاعة والقرب. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) : الطرد والإبعاد (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ؛ يوم الجزاء ، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل : إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس ، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن ، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) : أخرنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، أراد أن يجد فسحة فى الإغواء ، ونجاة من الموت ، إذ لا موت بعد وقت البعث ، فأجابه إلى الأول دون الثاني ، (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : المعين فيه أجلك عند الله ، وانقراض الناس كلهم ، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة ، وإن لم تكن بواسطة ، لا تدل على منصب إبليس ؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي ، فى سراج المريدين ، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة ، قال : لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. ه. وتردد المازرىّ فى ذلك وقال : لا قاطع فى ذلك ، وإنما فيه ظواهر ، والظواهر لا تفيد اليقين. ثم قال : وأما قوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) : فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها ، تقول العرب : كلمت فلانا مشافهة ، بالكلام ، وتارة بالبعث. ه. قلت : الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب ، كلام عتاب وإهانة ، كما يوبخ الكفار يوم القيامة ، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين ، وإن وجدت ، صورة.
ثم قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي : بسبب إغوائك لى ، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وقيل : الباء للقسم ، أي : بقدرتك على إغوائى ، لأزينن لهم المعاصي والكفر فى الدنيا ، التي هى دار الغرور. قال ابن عطية : قوله : (رَبِ) : مع كفره ، يخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق ، وهذا لا يدفع فى صدر كفره. وقال ، على قوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) : ليس هذا موضع كفره عند الحذاق ؛ لأن إبايته إنما هى معصية فقط ، أي : وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضى أن آدم مفضول ، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه ، فرأى أن ذلك جور ، فقاس وأخطأ ، وجهل أن الفضائل إنما هى حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. ه. مختصرا. وقال المازري : أما كفر إبليس فمقطوع به ؛ لقوله : (اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١) ثم قال : ويؤكده قوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ، وقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ...) الآية (٢) ، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
__________________
(١) من آية ٣٤ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٨٥ من سورة (ص).