يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر يا محمد (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ، قبل خلق آدم : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره ، قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ؛ حين جرى آثاره فى تجاويف أعضائه فحيى ، وأصل النفخ : إجراء الروح فى تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسرى فى تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن ، جعل تعلقه بالبدن نفخا. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك ، أي : من الروح الذي هو لى ، وخلق من خلقى.
فإذا نفخت فيه (فَقَعُوا) : فاسقطوا (لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) حين أكمل خلقته ، وأمرهم بالسجود ، وقيل : اكتفى بالأمر الأول ، (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ، أكد بتأكيدين للمبالغة فى التعميم ومنع التخصيص ، (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) : امتنع (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ، قال البيضاوي : إن جعل الاستثناء منقطعا اتصل به قوله : (أَبى) ؛ أي : لكن إبليس أبى أن يسجد (١) ، وإن جعل متصلا كان قوله (أَبى) : استئنافا ، على أنه جواب سائل قال : هلا سجد؟ فقال : أبى .. إلخ. قلت : والأحسن : أن يقدر السؤال بعد قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي : وما شأنه؟ فقال : أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ) ؛ أىّ شىء عرض لك ، (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) لآدم؟ (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) أي : لا يصح منى ، بل ينافى حالى أن أسجد (لِبَشَرٍ) جسمانى كثيف ، وأنا روحانى لطيف ، وقد (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، وهو أخس العناصر ، وخلقتنى من نار وهى أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل ، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها ، منها : أنه خلقه بيديه بلا واسطة ، أي : بيد القدرة والحكمة ، بخلاف غيره ، ومنها : أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة ، ومنها : أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه ، ومنها : أنه جعله خليفة فى أرضه ... إلى غير ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
__________________
(١) وهذا هو الصحيح ؛ فإبليس ، بنص الآية السابقة عن خلق الجان ، قد خلق من نار السموم ، فهذا نص فى اختلاف خلقته ، وخلقه ، عن الملائكة ، فهو جنس آخر غير الملائكة التي خلقها الله من نور ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، فهذان دليلان قطعيان فى الثبوت والدلالة ، على أن إبليس ليس ، ولم يكن من الملائكة ، لا خلقا ولا خلقا ، فالاستثناء منقطع.