لا تخف ، ثم عللوا نهيه عن الخوف فقالوا : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) وهو إسحاق ، لقوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) (١) ، (عَلِيمٍ) إذا بلغ أوان العلم. (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي : أبشرتموني بالولد مع أنى قد كبر سنى ، وكان حينئذ من مائة سنة وأكثر ، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)؟ أي : فبأى أعجوبه تبشرون؟ أو فبأى شىء تبشرون؟ فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شىء. قال ذلك على وجه التعجب من ولادته فى كبره.
(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) : باليقين الثابت الذي لا محالة فى وقوعه ، فلا تستبعده ، ولا تشك فيه ، (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) : من الآيسين ، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ؛ ولذلك (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) أي : لا ييأس من رحمة ربه (إِلَّا الضَّالُّونَ) : المخطئون طريق المعرفة ، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى ، وكمال قدرته. قال القشيري : أي : من الذي يقنط من رحمة الله إلا من كان ضالا ، فكيف أخطأ ظنكم بي ، فتوهمتم أنى أقنط من رحمة ربى؟. ه. وفيه دليل على تحريم القنوط ؛ قال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢).
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي : ما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ ولعله علم أن كمال المقصود ليس هو البشارة فقط ، لأنهم كانوا عددا ، والبشارة لا تحتاج إلى عدد ، ولذلك اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم. أو لأنهم بشروه فى تضاعيف الحال ؛ لإزالة الوجل ، ولو كانت تمام المقصود لابتدروه بها. ثم أجابوه : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) ؛ يعنى : قوم لوط ؛ لأن شأنهم الإجرام بفعل الفاحشة ، (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي : لكن آل لوط لم نرسل إلى عذابهم ؛ إذ ليسوا مجرمين. أو أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم ، إلا آل لوط ، لنهلك المجرمين وننجى آل لوط ، ويدل عليه قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) من العذاب الذي يهلك به قوم لوط.
قال ابن جزى : قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) : يحتمل أن يكون استثناء من قومه ، فيكون منقطعا ؛ لوصف القوم بالإجرام ، ولم يكن آل لوط مجرمين. ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير فى (مُجْرِمِينَ) ؛ فيكون متصلا ، كأنه قال : إلى قوم أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا ، وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ؛ استثناء من آل لوط ، فهو استثناء من استثناء. قيل : وفيه دليل على أن الأزواج من الآل ؛ لأنه استثنى امرأته من آله. وقال الزمخشري : إنما هو
__________________
(١) من الآية ٧١ من سورة هود.
(٢) من الآية ٨٧ من سورة يوسف.