تابوت فجعل فيه غلاما. ثمّ عمد إلى نسور أربعة فأجاعهنّ ، ثمّ ربط كلّ نسر بقائمة من قوائم التابوت ، ثمّ رفع لهم لحما في أعلى التابوت ، فجعل الغلام يفتح الباب الأعلى فينظر إلى السماء فيراها كهيئتها. ثمّ يفتح الباب الأسفل فينظر إلى الأرض فيراها مثل اللجّة. فلم يزل كذلك حتّى جعل ينظر فلا يرى الأرض ، وإنّما هو الهواء ، وينظر فوق فيرى السماء كهيئتها. فلمّا رأى ذلك صوّب اللحم ، فتصوّبت النسور. فيقال ، والله أعلم ، إنّه مرّ بجبل فخاف الجبل أن يكون أمر من الله ، فكاد الجبل أن يزول من مكانه. فذلك قوله : (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال). وذكر بعضهم أنّ نمروذ كان في التابوت ومعه صاحبه. فهو الذي جعل يأمره أن ينظر. فلمّا هاله ذلك أمره ، فنكس اللحم ، فانحدرت النسور. فبعث الله عليه أضعف خلقه : بعوضة ، فدخلت في منخره حتّى وصلت إلى دماغه فمات.
وقال بعضهم : في قراءة عبد الله بن مسعود : (وَإِنْ كاد مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). وذلك تفسيرها عندهم. قال بعضهم : ذلك المكر ما عمل بالنسور ، فلا أعلمه إلّا قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩) أي : عظيما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي : يتشقّقن منه (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا) أي : بأن دعوا (لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١) [سورة مريم : ٨٨ ـ ٩١].
وتفسير الحسن في هذا الحرف : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : هم أهون على الله من ذلك (١).
قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) : أي : ما وعدهم من النصر في الدنيا والجنّة في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) (٤٧) : أي عزيز في نقمته ، ذو انتقام من أعدائه بعذابه.
__________________
(١) هذه هي قراءة الجمهور ، وهذا هو التأويل الذي رجّحه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ط. الحلبي. انظر : ابن خالويه ، الحجّة ، ص ١٧٩ ، وابن جنّي ، المحتسب ، ج ٤ ص ٣٦٥ ، وابن الأنباري ، البيان في غريب إعراب القرآن ، ج ٢ ص ٦١ ـ ٦٢.