بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفاته ، وطوالع صفاته مطالع نور ذاته ، صفى مشارع مسامع قلوب أصفيائه لتحقق السماع ، وروّق موارد مشاعر فهوم أوليائه لتيقن الاطلاع ، ولطف أسرارهم بإشراق أشعة المحبة في أرجائها ، وشوّق أرواحهم إلى شهود جمال وجهه بفنائها ، ثم ألقى إليهم الكلام فاستروحوا إليه بكرة وعشيا ، وقرّبهم بذلك منه حتى خلصوا لديه نجيا ، فزكّى بظاهره نفوسهم فإذا هو ماء ثجاج ، وروى بباطنه قلوبهم فإذا هو بحر موّاج ، فلما أرادوا الغوص ليستخرجوا درر أسراره طغى الماء عليهم فغرقوا في تياره ، لكن أودية الفهوم سالت من فيضه بقدرها ، وجداول العقول فاضت من رشحه بنهرها ، فأبرزت الأوادي على السواحل جواهر ثاقبة ودررا ، وأنبتت الجداول على الشواطئ زواهر ناضرة وثمرا ، فأخذت القلوب عند مفيض مدّها واقفة على حدّها ، تملأ الحجور والأردان ، عاجزة عن عدّها ، وطفقت النفوس في اجتناء الثمار والأنوار ، شاكرة بوجدها ، قاضية بها الأوطار.
وأما الأسرار ، فإذا قرع سمعها قوارع الآيات تطلعت ، فاطلعت منها على طلائع الصفات ، فتحيرت في حسنها إذ رأتها ، وطاشت ودهشت عند تجلياتها وتلاشت حتى إذا بلغ الروح منها التراقي طلع من ورائها جمال طلعة وجهه الباقي ، وحكم الشهود عليها بنفي الوجود ، وألزمها الإقرار.
فسبحان من لا إله إلا هو الواحد القهار ، سبحان من يتجلى في كلامه بحلل صفات جلاله وجماله على عباده في صورة بهاء ذاته وكماله ، والصلاة على الشجرة المباركة التي أنطقها بهذا الكلام وجعلها مورده ومصدره منها ، ولها ، وإليها ، وعليهاالسلام وعلى آله الذين هم مخزن علمه وكتابه العزيز ، وأصحابه الذين أصبح الدين بهم في حرز حريز.
(وبعد) ، فإني طالما تعهدت تلاوة القرآن وتدبرت معانيه بقوّة الإيمان وكنت مع المواظبة على الأوراد حرج الصدر قلق الفؤاد ، لا ينشرح بها قلبي ولا يصرفني عنها ربي ، حتى استأنست بها فألفتها وذقت حلاوة كأسها وشربتها ، فإذا أنا بها نشيط النفس ، فلج الصدر ، متسع البال ، منبسط القلب ، فسيح السرّ ، طيب الوقت والحال ، مسرور الروح بذلك الفتوح كأنه دائما في غبوق وصبوح ، تنكشف لي تحت كل آية من المعاني ما يكلّ بوصفه لساني ، لا القدرة تفي بضبطها وإحصائها ، ولا القوة تصبر عن نشرها وإفشائها ، فتذكرت خبر من أتى ما