لقد حذف القرآن المجيد هنا بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية ، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون ، والمبحث في الواقع هكذا :
لمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه ، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثرة التي علّمه الله إيّاها أثناء الأمر بالرسالة. فلما سمع فرعون هذا الكلام ، كان أوّل ردّ فعله أن (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى). والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتى أن يقول : من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال : من ربّكما؟
فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً ، وقصير في الوقت نفسه ، عن الله : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود ، وكل واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله :
الأوّل : إنّ الله سبحانه قد وهب لكل موجود ما يحتاجه.
والثاني : مسألة هداية وإرشاد الموجودات.
إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أيّ شيء من أسباب الحياة ، إلّاأنّه يجهل كيفية الاستفادة منها ، والمهم أن يعرف طريقة استعمالها ، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح ، وكيف أنّ كلّاً منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته ، كيف يبني بيتاً ، وكيف يتكاثر ، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء ، أو يعلّمهم كيف يواجهون الأعداء.
والبشر ـ أيضاً ـ لديهم هذه الهداية التكوينية.
فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة ، فإنّ له واجبات ومسؤوليات ، وبعد ذلك مناهج تكاملية ليس للحيوانات مثلها ، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينية محتاج إلى الهداية التشريعية.
فلما سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل ، ألقى سؤالاً آخر (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى).
أجابه موسى عليهالسلام بقوله : (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتبٍ لَّايَضِلُّ رَبّى وَلَا يَنسَى).
إنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم الله بكل شيء ، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ أي شيء من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة ، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.