إنّ للمسلمين هجرتين ؛ الاولى : كانت محدودة نسبياً (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة) ، والثانية : الهجرة العامة للنبي صلىاللهعليهوآله والمسلمين من مكة إلى المدينة. وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثانية ، كما يؤيّد ذلك شأن النزول.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)
اسألوا إن كنتم لا تعلمون : هذه الآية يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق باصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة ؛ حين يتقوّل المشركون : لماذا لم ينزل الله ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون : لِم لم يجهّز النبي صلىاللهعليهوآله بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا؟ فيجيبهم الله عزوجل بقوله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ).
نعم. فإنّ أنبياء الله جميعهم من البشر ، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانية ، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون. في حين أنّ الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الامور جيّداً.
ثم يضيف القول (تأكيداً لهذه الحقيقة) : (فَسَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ).
«الذكر» : بمعنى العلم والإطلاع ؛ و «أهل الذكر» : له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات.
فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية ، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه ، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.
وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة ، ويجب أن يكون من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.
ثم تقول الآية التالية : (بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ).
«البيّنات» : جمع بيّنة ، بمعنى الدلائل الواضحة ، ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياء في دعوتهم ؛ و «الزبر» : جمع زبور ، بمعنى الكتاب.