ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحق ، فقد أضاف تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى) (١).
هنا (قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا). فيسمع الجواب مباشرةً : (قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَءَايتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى). وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه.
أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول : (وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بَايتِ رَبّهِ وَلَعَذَابِ الْأَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (١٣٠)
لما كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين ، فقد أشارت الآيات الاولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً ، وهو مطالعة تأريخ الماضين ، فتقول : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كُمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ). اولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم (يَمْشُونَ فِى مَسكِنِهِمْ).
إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم ، إلّاأنّهم لا يعتبرون.
نعم ... (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى) (٢).
إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الامور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً.
في كتاب معاني الأخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «... وأغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال». ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.
الآية التالية جواب عن سؤال يثار هنا ، وهو : لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم
__________________
(١) «الضنك» : المشقّة والضيق ، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد ، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.
(٢) «النهى» : من مادّة نهي ، وهي هنا بمعنى العقل ، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.