معبودات أضعف من ذبابة : تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك ، فتحدثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة ، فتقول الآية الاولى : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطنًا). وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية (وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ). أي : يعبدون عبادةً لا يملكون دليلاً على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي ، ولا من طريق الاستدلال العقلي ، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره ، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب ، لهذا تقول الآية في ختامها : (وَمَا لِلظلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).
وتشير الآية الثانية ـ موضع البحث ـ إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات الله تعالى ، في جملة وجيزة لكنها ذات دلالات كبيرة : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ).
وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصب الجاهلية الذي لا يرضخ للحق ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم ، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلّاظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتى إنّهم (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْءَايَاتِنَا). أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله عزوجل وضربهم بقبضات أيديهم ، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.
«يسطون» : مشتقة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر.
وقد أمر القرآن المجيد الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله أن يجيب هؤلاء المتغطرسين هاتفاً (قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلِكُمُ النَّارُ). أي : إن زعمتم أنّ هذه الآيات البينات شرّ ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة ، فإنّني اخبركم بما هو شرّ منها ، ألا وهو عقاب الله الأليم ، النار التي أعدّها الله جزاءً : (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون ، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم ، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن (يَا أيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وتدبّروا فيه جيّداً (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). أجل ، لو إجتمعت الأوثان كلها ، وحتى العلماء والمفكّرين والمخترعين جميعاً ، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السماوات والأرض وما فيهن من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر ، في الصحاري والغابات ، وفي أعماق الأرض؟