وفي المرحلة (الثالثة) تقول الآية : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ). أي : إذا كانت هذه الدعوة صادرة من شخص مجهول ومشكوك ، فيحتمل أن يقولوا بأنّ كلامه حق ، إلّاأنّ هذا الرجل مشكوك وغير معروف لدينا ، فيحتمل أن نُخدع بكلامه ، ولكنّهم يعرفون ماضيك جيّداً ، وكانوا يدعونك محمّداً الأمين ، ويعترفون بعقلك وعلمك وأمانك ، ويعرفون جيّداً والديك وقبيلتك ، فلا حجة لهم.
وفي المرحلة (الرابعة) تقول الآية : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ). أي إنّه مجنون ، فبعد إعترافهم بأنّك لست مجهولاً بالنسبة لهم ، إلّاأنّهم يشكّكون في سلامة عقلك وينسبونك إلى الجنون ، لأنّ ما تدعو إليه لا ينسجم مع عقائدهم ، فلذلك اتّخذوا هذا دليلاً على جنونك.
يقول القرآن المجيد لنفي هذه الحجة : (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقّ). وكلامه شاهد على هذه الحقيقة ، ويضيف : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كرِهُونَ).
أجل ، إنّ كلمات الرسول راشدة حكيمة ، إلّاأنّهم ينكرونها لعدم إنسجامها مع أهوائهم النفسية ، فألصقوا به تهمة الجنون في الوقت الذي لا ضرورة في توافق الحق مع رغبات الناس : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ).
لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس ، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشر والفساد غالباً.
وتأكيداً لذلك تقول الآية : (بَلْ أَتَيْنهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ). أي : منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجه إلى الله ، وسبب لرفعتهم وشرفهم ، إلّاأنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضيء لهم درب السعادة والشرف.
وفي المرحلة الخامسة تقول الآية : هل أنّ عذرهم في فرارهم من الحق هو أنّك تريد منهم أجراً على دعوتك : (أَمْ تَسَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
والقرآن الكريم بإيضاحه هذه المراحل الخمس برهن على أنّ هؤلاء الحمقى (المشركين) لا يرضخون للحق ، وأنّ أعذارهم في إنكار الحق أعذار واهية.
وجاءت الآية التالية باستنتاج عام لكل ما مضى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
ورغم أنّ الروايات الإسلامية تفسّر الصراط المستقيم بولاية علي عليهالسلام ، إلّاأنّها تكشف عن المصداق الأكمل لذلك ، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالقرآن والإيمان بالمبدأ والمعاد والتقوى والجهاد والعدل.