نُفَصّلُ الْأَيتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). أجل ، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها ، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم.
غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب ، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل ، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات ، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلاً : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ). ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة ، فتاهوا في وادي الضلالة (فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ).
ولا شك أنّ من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم (وَمَا لَهُم مِّن نصِرِينَ)
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢)
كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله ، عن طريق مشاهدة نظام الخلق ، وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر ، فإنّ الآية الاولى ـ من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري ، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا) ، لأنّها (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). «الوجه» : معناه معروف ، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني ، ووجه القلب والروح ؛ وكلمة «أقم» : مشتقة من الإقامة ، ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة) ... وكلمة «حنيف» : مشتقة من «حَنَف» ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق ، ومن الاعوجاج نحو الاستواء والاستقامة. فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والاستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.
إنّ جملة (لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) وبعدها جملة (ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ) تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً ، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة ...