فكيف تبيعين يا نفس ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة ان بقي؟. هذا ان كنت ملكا من ملوك الأرض ، سلم لك الشرق والغرب ، حتى اذعنت لك الرقاب ، وانتظمت لك الأسباب. كيف ويأبى ادبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك (١) ، بل أمر دارك ، فضلا عن محلتك؟.
فان كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك ، فما لك لا تتركينها ترفعا عن خسة شركائها ، وتنزها عن كثرة عنائها ، وتوقيا من سرعة فنائها؟. أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟. وما لك تفرحين بدنيا ان ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها ، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟ فأفّ لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء!.
فما أجهلك ، وأخس همتك ، وأسقط رأيك ، اذ رغبت عن أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين ، في جوار رب العالمين أبد الآبدين ، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل ، فيا حسرة عليك أن خسرت الدنيا والدين!.
فبادري ويحك يا نفس ، فقد أشرفت على الهلاك ، واقترب الموت ، وورد النذير ، فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يصوم عنك بعد الموت؟ ومن ذا يرضي عنك ربك بعد الموت؟.
ويحك يا نفس ، ما لك الا أيام معدودة هي بضاعتك ، ان اتجرت فيها وقد ضيعت أكثرها ، فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف اذا ضيعت البقية ، وأصررت على عادتك؟.
أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك ، والقبر بيتك ، والتراب
__________________
(١) المحلة : المنزل.