الحجّة عليه ، فلم يكن كفرا ، وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلّا وهو لله موحّد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهّره وآتاه رشده من قبل وأخبره عنه؟ وقال : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)) [الصافات : ٨٤] ، وقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبا قال : هذا ربي معتقدا فهذا ما لا يكون أبدا ، ثم قال : فيه أربعة أوجه من التأويل ، أحدها : أن إبراهيم أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظّموه ، وكانوا يعظّمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها فأراهم أنه معظّم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ليثبت خطأ ما يدّعون ، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم ، فأظهر تعظيمه فأكرموه حتى صدروا (١) في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره ، فقال الرأي أن تدعوا هذا الصنم حتى يكشف عنّا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا حوله يتضرّعون فلما تبيّن له أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يحذرون ، فأسلموا ، والوجه الثاني من التأويل أنه قاله على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي؟ كقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ [الأنبياء : ٣٤] ، أي : أفهم الخالدون؟ وذكره على وجه التوبيخ منكرا لفعلهم ، يعني : أمثل هذا يكون ربا؟ أي : ليس هذا ربي ، والوجه [الثالث : أنه ذكره على وجه](٢) الاحتجاج عليهم ، يقول : هذا ربي بزعمكم؟ فلمّا غاب قال : لو كان إلها لما غاب. كما قال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)) [الدخان : ٤٩] ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكما أخبر عن موسى أنه قال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ) [طه : ٩٧] ، يريد إلهك بزعمك ، والوجه الرابع : فيه إضمار وتقديره يقولون هذا ربي ؛ كقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] ، أي : يقولون ربّنا تقبّل منّا. (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، ربا (٣) لا يدوم.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠))
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) ، طالعا ، (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، قيل : لئن لم يثبتني ربي على الهدى ، ليس أنه لم يكن مهتديا ، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان ، وكان إبراهيم يقول : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، أي : عن الهدى.
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) ، طالعة ، (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) ، أي : أكبر من الكواكب والقمر ، ولم يقل هذه مع أن الشمس مؤنثة لأنه أراد هذا الطالع ، وردّه إلى المعنى ، وهو الضّياء والنور ، لأنه رآه أضوأ من النجوم والقمر ، (فَلَمَّا أَفَلَتْ) ، غربت ، (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
__________________
(١) تصحف في المطبوع «صدوا».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع وط «وما» والمثبت من المخطوطين.