اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))
قوله عزوجل : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) ، أي : هذا الذي بيّنا. وقيل : هذا الذي أنت عليه يا محمد طريق ربّك ودينه الذي ارتضاه لنفسه مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).
(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، يعني : الجنّة ، قال أكثر المفسّرين : السلام هو الله وداره الجنّة. وقيل :السلام هو السلامة ، أي : لهم دار السلامة من الآفات ، وهي الجنّة. وسمّيت دار السلام لأن كل من دخلها سلم من البلايا والرزايا. وقيل : سمّيت بذلك لأن جميع حالاتها مقرونة بالسلام ، فقال في الابتداء : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦)) [الحجر : ٤٦] ، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ، وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] ، وقال : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] ، (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)) [يس : ٥٨] ، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، قال الحسين (١) بن الفضل : يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء.
قوله عزوجل : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) ، قرأ حفص : (يَحْشُرُهُمْ) بالياء ، (جَمِيعاً) ، يعني : الجنّ والإنس يجمعهم في موقف القيامة فيقول : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) ، والمراد بالجن : الشياطين ، (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) ، أي : استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء ، أي : أضللتم كثيرا ، (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) ، يعني : أولياء الشياطين الذين أطاعوهم من الإنس ، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) ، قال الكلبي : استمتاع الإنس بالجن هو أن الرجل كان إذا سافر ونزل بأرض قفر وخاف على نفسه من الجنّ ، قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في جوارهم ، وأما استمتاع الجن بالإنس : هو أنهم قالوا قد سدنا الإنس مع الجن ، حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم ؛ وهذا كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)) [الجن : ٦] ، وقيل : استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، حتى يسهل فعلها عليهم ، واستمتاع الجنّ بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزيّنون لهم من الضلالة والمعاصي.
قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم لبعض ، (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) ، يعني : القيامة والبعث ، (قالَ) الله تعالى : (النَّارُ مَثْواكُمْ) ، مقامكم ، (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، اختلفوا في هذا الاستثناء كما اختلفوا في قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧] ، قيل : أراد إلّا قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم ، يعني : [هم](٢) خالدون في النار إلّا هذا المقدار ، وقيل : الاستثناء يرجع إلى العذاب ، وهو قوله : (النَّارُ مَثْواكُمْ) ، أي : خالدين في النار ، الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار ، و (ما) بمعنى (من) على هذا التأويل ، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ، قيل : حكيم بمن استثنى عليم بما في قلوبهم من البرّ والتقوى.
(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
__________________
(١) في المخطوط وحده «الحسن».
(٢) زيادة عن المخطوط وط.