يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين. قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، لكنه على قوله تسليما منكم ، ولا خير ولا شرّ بيننا وبينكم. قال المبرد : كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ، ثم أمروا بحربهم ، وقال محمد بن يزيد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية ، لأنه قال في آخر كلامه : فنسختها آية السيف. وأقول : هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ومشى في غير طريقته ، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ، ولا نهوا عنه ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ. قال النضر بن شميل : حدّثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم من رأيت ، فإذا هو على سطح ، فسلمنا فردّ علينا السلام وقال لنا : استووا ، فبقينا متحيرين ، ولم ندر ما قال ، فقال لنا أعرابيّ إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل : هو من قول الله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (١) قال : فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز وفطير ولبن هجير؟ فقلنا : الساعة فارقناه ، فقال : سلاما ، فلم ندر ما قال ، فقال الأعرابيّ : إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شرّ. قال الخليل : هو من قول الله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً). (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) البيتوتة : هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. قال الزجاج : من أدركه الليل فقد بات ، نام أو لم ينم ، كما يقال : بات فلان قلقا ، والمعنى : يبيتون لربهم سجدا على وجوههم ، وقياما على أقدامهم ، ومنه قول امرئ القيس :
فبتنا قياما عند رأس جوادنا |
|
يزاولنا عن نفسه ونزاوله |
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي : هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه ، والغرام : اللازم الدائم ، ومنه سمّي الغريم لملازمته ، ويقال : فلان مغرم بكذا ، أي : ملازم له مولع به ، هذا معناه في كلام العرب ، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما ، ومنه قول الأعشى :
إن يعاقب يكن غراما وإن |
|
يعط جزيلا فإنّه لا يبالي |
وقال الزجاج : الغرام : أشدّ العذاب. وقال أبو عبيدة : هو الهلاك. وقال ابن زيد : الشرّ ، وجملة (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) تعليل لما قبلها ، والمخصوص محذوف ، أي : هي ، وانتصاب مستقرّا على الحال أو التمييز ، وكذا مقاما ، قيل : هما مترادفان ، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما ، وقيل : بل هما مختلفان معنى : فالمستقرّ للعصاة فإنهم يخرجون ، والمقام للكفار يخلدون ، وساءت : من أفعال الذم كبئست ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم. ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب «يقتروا» بفتح التحتية وضم الفوقية ، من قتر يقتر كقعد يقعد ، وقرأ أبو عمرو
__________________
(١). البقرة : ٢٩.