مكة ، أو أكثر الكفار على الإطلاق ، أو أكثر كفار العرب ، وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه طول حياته فيتفرّع قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) على ما قبله بهذا الاعتبار ، أي : لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه ، وقيل : المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) (١) وجملة (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم (فَهِيَ) أي : الأغلال منتهية (إِلَى الْأَذْقانِ) فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها ، وهو معنى قوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء والزجاج : المقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ؛ ومعنى الإقماح رفع الرأس وغضّ البصر ، يقال أقمح البعير رأسه وقمح : إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء ، قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء ، فهم مرفوعو الرؤوس رفع الأغلال إياها. وقال قتادة : معنى مقمحون : مغلولون ، والأوّل أولى ، ومنه قول الشاعر :
ونحن على جوانبها قعود |
|
نغضّ الطّرف كالإبل القماح |
قال الزجاج : قيل للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد ، وأنشد قول أبي زيد الهذلي :
فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا |
|
وحبّ الزّاد في شهري قماح |
قال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. وقال أبو عبيدة أيضا : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول ، كما يقال فلان حمار ، أي : لا يبصر الهدى ، وكما قال الشاعر :
لهم عن الرّشد أغلال وأقياد
وقال الفراء : هذا ضرب مثل ، أي : حسبناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (٢) وبه قال الضحاك. وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) (٣) وقرأ ابن عباس «إنّا جعلنا في أيمانهم أغلالا» قال الزجاج : أي في أيديهم. قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ، التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان ؛ فلفظ هي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا ، ونظيره (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٤) وتقديره : وسرابيل تقيكم البرد ، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد ، لأن الغلّ إذا كان في العنق فلا بدّ أن يكون في اليد ، ولا سيما وقد قال الله (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون ، أي : رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق ، لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إنا جعلنا في أيديهم أغلالا» وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا» كما روي سابقا من قراءة ابن عباس
__________________
(١). ص : ٨٤ و ٨٥.
(٢). الإسراء : ٢٩.
(٣). غافر : ٧٣.
(٤). النحل : ٨١.