لهم من الله وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : قال هذه الكلمة التي قالوها وهي قولهم : إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون وغيره ، فإن قارون قال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (١) (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) يجوز أن تكون ما هذه نافية ، أي : لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا ، وأن تكون استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم ذلك (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي : جزاء سيئات كسبهم ، أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم ، وسمي الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم ، فيكون ذلك من باب المشاكلة كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) ، ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال : (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) الموجودين من الكفار (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب من قبلهم ، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي : يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له (وَيَقْدِرُ) أي : يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ويضيقه عليه. قال مقاتل : وعظهم الله ليعتبروا في توحيده ، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين ، فقال : أو لم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء ويقتر على من يشاء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي : في ذلك المذكور لدلالات عظيمة وعلامات جليلة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وخصّ المؤمنين لأنهم المنتفعون بالآيات المتفكرون فيها. ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبه بذكر سعة رحمته وعظيم مغفرته وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يبشرهم بذلك فقال : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) المراد بالإسراف : الإفراط في المعاصي ، والاستكثار منها ، ومعنى لا تقنطوا : لا تيأسوا من رحمة الله : من مغفرته. ثم لما نهاهم عن القنوط أخرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ويجعل الرجاء مكان القنوط فقال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).
واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أوّلا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي ، والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب ، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى ، وبفحوى الخطاب ، ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده ، فهو في قوّة : إن الله يغفر كلّ ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النصّ القرآني وهو الشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣) ثم لم يكتف بما أخبر عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله : (جَمِيعاً) فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه. الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظنّ بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلا إنه هو الغفور الرحيم. أي : كثير المغفرة والرحمة ؛ عظيمهما ؛ بليغهما ؛ واسعهما ، فمن
__________________
(١). القصص : ٧٨.
(٢). الشورى : ٤٠.
(٣). النساء : ٤٨.