الْأَمْرِ) (١) وقد قدّمنا في آل عمران كلاما في الشورى (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : ينفقونه في سبيل الخير ويتصدّقون به على المحاويج. ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق ، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) فالانتصار عند البغي فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء ، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة ، وظاهر هذا العموم. وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان : إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره. وقال مجاهد والسدّي : هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك الله من غير أن يعتدي ، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابههما في الصورة. ثم لما بين سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز ؛ بين فضيلة العفو فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه ، أي : أن الله سبحانه يأجره على ذلك ، وأبهم الأجر تعظيما لشأنه ، وتنبيها على جلالته. قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة ، وقد بينا هذا في سورة آل عمران. ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : المبتدئين بالظلم قال مقاتل : يعني من يبدأ بالظلم ، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل : لا يحبّ من يتعدّى في الاقتصاص ويجاوز الحدّ فيه لأن المجاوزة ظلم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بعد أن ظلمه الظالم له ، واللام هي لام الابتداء. وقال ابن عطية : هي لام القسم ، والأوّل أولى. ومن : هي الشرطية ، وجوابه : (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بمؤاخذة وعقوبة ، ويجوز أن تكون من : هي الموصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيها للموصولة بالشرطية ، والأوّل أولى. ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يتعدّون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر. وقال ابن جريج : أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : يعملون في النفوس والأموال بغير الحقّ كذا قال الأكثر. وقال مقاتل : بغيهم : عملهم بالمعاصي ، وقيل : يتكبرون ويتجبرون. وقال أبو مالك : هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام دينا ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الذين يظلمون الناس ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم. ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) أي : صبر على الأذى وغفر لمن ظلمه ولم ينتصر ، والكلام في هذه اللام ومن كالكلام في ولمن انتصر (إن ذلك) الصبر والمغفرة (لَمِنْ عَزْمِ
__________________
(١). آل عمران : ١٥٩.
(٢). المنافقون : ٨.