لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ، عاد إلى ذكر قبائح الكفار ، وفضائح سيرتهم فقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه (وَلا يَضُرُّهُمْ) إن تركوه (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الظهير : المظاهر ، أي : المعاون على ربه بالشرك والعداوة ، والمظاهرة على الربّ هي المظاهرة على رسوله أو على دينه : قال الزجاج : لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله ، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. وقال أبو عبيدة : المعنى وكان الكافر على ربه هينا ذليلا ، من قول العرب ظهرت به : أي جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه ، ومنه قوله : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) (١) أي : هينا ، ومنه أيضا قول الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكوننّ حاجتي |
|
بظهر فلا يعيا عليّ جوابها |
وقيل إن المعنى : وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء ، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع ، ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٢) والمعنى : أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله أو على الدين ، والمراد بالكافر هنا الجنس ، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل إنه أبو جهل (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي : مبشرا للمؤمنين بالجنة ، ومنذرا للكافرين بالنار (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : قل لهم يا محمد : ما أسألكم على القرآن من أجر ، أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) منقطع ، أي : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل ، وقيل : هو متصل. والمعنى : إلا من شاء أن يتقرّب إليه سبحانه بالطاعة وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول. ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله ، وأمره أن لا يطلب منهم أجرا البتة ، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار ، وجلب المنافع فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) وخصّ صفة الحياة إشارة إلى أن الحيّ هو الذي يوثق به في المصالح ، ولا حياة على الدوام إلّا لله سبحانه ، دون الأحياء المنقطعة حياتهم ، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم ، والتوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي : نزهه عن صفات النقصان ، وقيل : معنى سبح : صلّ ، والصلاة : تسمى تسبيحا (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي : حسبك ، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك : كفى بالله ربا ، والخبير : المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء ، ثم زاد في المبالغة ، فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد تقدّم تفسير هذا في الأعراف ، والموصول في محل جرّ على أنه صفة للحيّ ، وقال بينهما ولم يقل بينهنّ لأنه أراد النوعين ، كما قال القطامي :
ألم يحزنك أنّ حبال قيس |
|
وتغلب قد تباينتا انقطاعا |
فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض كما تفيده ثم ؛ فيقال إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات والأرض ، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ،
__________________
(١). هود : ٩٢.
(٢). التحريم : ٤.