قوله تعالى : (بَلْ كانُوا).
إضراب انتقال ، ولا بد أن يكون المنتقل إليه أبلغ من المنتقل عنه ، قال : وعادتهم يقررون الأبلغية قلنا : بأن حصول النتيجة بأحد أمرين : إما عن اللازم مقدمة ، بمعنى أن المقدمة استلزمت نتيجة ، أو عن قياس تمثيلي فكونها عن لازم مقدمة أقوى من كونها عن قياس تمثيلي ، قال : فقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) ، راجع للقياس التمثيلي ، وهو أن مشاهدتهم أباد المهلكين وثأرهم مع الله تعالى أوجدتهم من عدم ثم أهلكهم وهو كذلك أنهم وجدوا من عدم وحالهم كحالهم في العصيان ألا ترى أن ابن الخطاب استدل على إثبات القياس ، بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [سورة الحشر : ٢] ، والثاني : أن هلاكهم بعد إيجادهم من عدم يستلزم اتصاف الله تعالى بالقدرة والإرادة فدل على صحة قدرته على إعادتهم للحشر والنشر والحساب.
قوله تعالى : (كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا).
شهادة منهم له بأنه قد أبلغ وسعه في تبليغ ما أمر به حتى قارب إضلالهم عن آلهتهم ولم يضلهم عنها ، ومن قارب فعل الشيء ولم يفعله هو على نوعين : إما لعجزه عن طريق فعله ، وإما لمانع وجده فيه يمنعه من فعله ، والعجز هنا منتف فطريق الوجود ، والمانع منهم يمنعهم من الضلال عن آلهتهم ، فكذلك لو لا أن صبرنا عليها ، لأنها لا تلزم إلا حيث يكون الكلام محتملا ، تكون إن نافية ومخففة من الثقيلة ، فيلزم اللام المخففة فرقا بينهما وبين النافية ، والكلام هنا صريح أنها مخففة.
قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ).
قال الزمخشري : فيه تقديم وتأخير ، أي : اتخذ هواه آلهة وقدم لفظ الآلهة اعتناء به.
ابن عرفة : الصواب ألا تقديم فيه بوجه ؛ لأن المقدم في هذا التركيب منفي بثبوت المؤخر ، كقولك : اتخذ زيد نومه مهجده ، أي انسلخ عن نومه وصيره تهجدا ، فهذا مدح ، ولو عكستها تقول : اتخذ زيد تهجده نومه ، أي انسلخ عن تهجده وصيره نوما ، وكذلك قولك : اتخذ زيد تجارته عبادة فهذا مدح ، ولو عكست لصار ذما ، فالمراد هنا أنه انسلخ عن الآلهة وعبادته إلى اتباع هواه ، ولو قال : اتخذ هواه آلهة لصار مدحا من ناحية أنه انسلخ عن هواه إلى عبادة آلهة ، قيل لابن عرفة : إنما حمله الزمخشري على أنه جعل هواه حاكما عليه ، فقال : إنما المعنى ما قلت لكم وهو الصواب ، وكذلك