وهذا التحدي ليس خاصّا بالذين خوطبوا بل هو تحدّ عام إلى يوم القيامة. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالقرآن متحدّ البشر كلهم منذ نزوله إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثله. ولذلك ليس القرآن معجزا للعرب الذين كانوا في أيّام الرسول فقط ، ولا للعرب وحدهم في كلّ مكان وزمان ، بل هو معجز للناس أجمعين ، لا فرق في ذلك بين قبيل وقبيل ، لأن الخطاب به للناس أجمعين. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(١) ولأن آيات التحدي عامّة تقول : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وهو يشمل الناس جميعا ، ولأن القرآن أخبر عن عجز الإنس والجنّ قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).
وعجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وعجز الناس جميعا عن أن يأتوا بمثله ، إنما هو لأمر ذاتي في القرآن نفسه. فإن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن أقبلوا عليه مأخوذين بقوة بلاغته ، حتى أن الوليد بن المغيرة ليقول للناس : وقد سمع النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقرأ القرآن [والله ما منكم رجل أعرف بالأشعار منّي ولا أعلم برجزه وقصيده منّي ، والله ما يشبه الّذي يقوله شيئا من هذا ، والله إنّ لقوله الّذي يقوله لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمورق أعلاه مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو ولا يعلى عليه](٢) مع أن الوليد هذا لم يؤمن وأصرّ على كفره. فالإعجاز آت من ذات القرآن ، لأن الذين سمعوه والذين يسمعونه إلى يوم القيامة يشهدون ويتحيّرون من قوّة تأثيره وقوّة بلاغته ، بمجرّد
__________________
(١) سبأ / ٢٨.
(٢) ينظر : السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٢٨٩ وفيه تفصيل قصة (تحيّر الوليد بن المغيرة فيما يصف فيه القرآن). والمستدرك على الصحيحين للحاكم : كتاب التفسير : باب مدح كلام الله من لسان الكافر : ج ٢ ص ٥٠٧ عن أبي سعيد الخدري : وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التلخيص. ودلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي : باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله من الإعجاز وأنه لا يشبه شيئا من لغتهم : ج ٢ ص ١٩٨. والجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ١٩ ص ٧٤. وأسباب النّزول للواحدي : ص ٢٩٥. والبرهان في علوم القرآن للزركشي : ج ٢ ص ١٧. ولباب النقول في أسباب النّزول : ص ٢٢٣.