(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١) جاءت صريحة بأنّها علم الله ، إذ الآية كلها تقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) على غرار قوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)(٢) بدليل الآية الثانية التي جاءت في نفس السورة ـ بسورة الأنعام ـ وهي (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فقد جاءت الآية (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٣).
فهذا كلّه يدل على أنه ليس المراد في هذه الآية من كلمة الكتاب القرآن ، بل المراد اللوح المحفوظ وهو كناية عن علم الله. وإذن لا دلالة في الآية على أنّ القرآن يحوي العلوم وأمثالها. فيكون القرآن خاليا من بحث العلوم ، لأن مفرداته وتراكيبه لا تدلّ عليها ، ولأن الرسول لم يبيّنها ، فلا علاقة لها به. هذا هو واقع القرآن ، وهو يدلّ دلالة صريحة واضحة أنه نصوص عربية جاء بها رسول من عند الله ، لا تفسّر بغير اللغة العربية وسنّة رسول الله.
ولما كان الصحابة أقرب الناس جميعا إلى الصواب في تفسير القرآن لعلوّ كعبهم في اللغة العربية ، ولملازمتهم للذي أنزل عليه القرآن ، كانوا فيما اتّفقوا على سلوكه ، من جعل العربية كالشعر الجاهليّ ، والخطب الجاهلية وغيرها الأداة الوحيدة لفهم مفردات القرآن وتراكيبه ، ومن وقوفهم عند حدّ ما ورد عن الرسول ، ومن إطلاق عقلهم في فهم القرآن على ضوء هاتين الأداتين ، خير طريقة تسلك لفهم القرآن.
ولذلك فإنا نرى أن طريقة تفسير القرآن أن تتخذ اللغة العربية ومعهود العرب في الخطاب ، والسّنة النبوية ، الأداة الوحيدة لفهم القرآن وتفسيره من حيث مفرداته وتراكيبه ، ومن حيث المعاني الشرعية ، والأحكام الشرعية ، والأفكار التي لها واقع شرعي ، وأن يطلق للعقل أن يفهم النصوص بقدر ما يدلّ عليه كلام العرب ومعهود تصرفهم في القول ، وما تدلّ عليه الألفاظ من المعاني الشرعية الواردة بنصّ شرعي من قرآن أو سنّة ، غير مقيّدة بما فهم الأوّلون السابقون ، لا العلماء ، ولا التابعون ، حتى
__________________
(١) الأنعام / ٣٨.
(٢) الكهف / ٤٩.
(٣) الأنعام / ٥٩.