الغريبة فيطير في الهواء ، ويركب المكانس وغيرها يذهب بها إلى أماكن بعيدة ، ويصوّر المرء بغير صورته.
ويرى المعتزلة وبعض أهل السنة أن السحر لا حقيقة له ، وإنما هو خداع وتمويه وتخيّل ، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الاستراباذي (١) من الشافعية ، وأبو بكر الرازي من الحنفية ، وابن حزم الظاهري (٢) وطائفة. ويرون أنّ السحر بهذا المعنى ضروب.
فمن ضروبه كثير من التخيّلات التي مظهرها على خلاف حقائقها ، كما يفعله بعض المشعوذين ، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا ، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه ، وذلك لخفة حركته ، والمذبوح غير الذي طار ، لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما ـ وهو المذبوح ـ وأظهر الآخر.
وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فقد قيل إن عصيهم كانت عصيا مجوفة ، قد ملئت زئبقا ؛ وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا ، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وملؤوها نارا. فلما طرحت عليها وحمي الزئبق حركها ، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير ، وقد أخبر الله عن ذلك بقوله : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦].
وضرب آخر ، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين ، وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ، ومواطأة قوم ، قد أعدوهم لذلك.
وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية ، وكثير ممن يدّعون السحر يوكّلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس ، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها ، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات.
ويقال : إنّ مخاريق الحلاج كانت كلها بالمواطأة ، فكان يواطئ أقواما يضعون له خبزا ولحما ، وفاكهة في مواضع بعينها ، ثم يمشي مع أصحابه في البرية ، ثم يأمر بحفر هذه المواضع ، فيخرج ما خبّأ من الخبز واللحم والفاكهة ، فيعدونها من الكرامات.
وضرب آخر من السحر : هو السعي بالنميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة ، كما حكي أنّ رجلا تزوّج امرأة على أخرى. فعظم ذلك على الأولى ، فاستعانت برجل ، فتوصل إلى أن قال للثانية : إن أردت أن تنغرس محبتك في قلب
__________________
(١) أحمد بن محمد من أصحاب ابن السريج وكبار الفقهاء والمدرسين ، انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي (٢ / ٢٣٧).
(٢) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن صالح ، الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (١٨ / ١٨٤) ترجمة (٩٩).