وقد ذكر أهل الأخبار ونقلة المفسرين أخبارا في تفسير هذه الآية مؤداها أن هاروت وماروت أنزلا ليحكما بين الناس ، وركبت فيهما الشهوة ، فزنيا ، وشربا الخمر ، وكفرا ، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلّقا ببابل يعلمان الناس السحر.
وهذه الأخبار لم يرد منها شيء صحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإنما هي من كتب اليهود ومن افترائهم ، فكما افتروا على سليمان ، كذلك افتروا على الملكين.
وهذه الأخبار قد انطوت على عدم عصمة الملائكة ، وجلة العلماء على عصمتهم لقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)) [الأنبياء : ١٩ ، ٢٠] وغير ذلك من الآيات ، ومما يدل على عدم صحة هذه الأخبار أن أصحابها يزعمون أن هاروت وماروت قد اختارا عذاب الدنيا فعلّقا ببابل ، وأن امرأة في زمن السيدة عائشة رضي الله عنها قد ذهبت إليهما ، وتعلمت منهما السحر ، وجاءت تستفتي هل لها توبة؟ وبابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة ، وقيل : الكوفة على قول المفسرين ، أو هي بلدة في الجانب الشرقي من نهر الفرات ، بعيدة عنه على قول علماء التاريخ. وهذه الجهات ليست من الأماكن المجهولة التي لم تطرق ، بل هي أماكن معروفة قد طرقها الناس في القديم والحديث ، ولم يعثر أحد على هذين الملكين هناك.
وقد رأيت أن ما جاء في الآية من ذكرهما لا يلزم أن يحمل على ما جاء في هذه الأخبار ، بل يصح أن يحمل على ما حملنا وحمله جملة من المفسرين عليه.
ما يؤخذ من الآية من الأحكام
يؤخذ من الآية أنّ عمل السحر كفر. لقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي : من السحر ، (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي بعمل السحر (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ). وهذا كله يدل على أنّ السحر كفر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وذهب الشافعيّ إلى أن السحر معصية : إن قتل بها قتل. وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والحق الأول لما تدل عليه الآية ، ولأن السحر كلام يعظّم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات.
واعلم أنه إذا جعل السحر ضربا واحدا ، وكان كله تعظيما لغير الله ، وكان فيه إسناد الحوادث للكواكب ، جاز إطلاق القول بكفر الساحر ، وهو قول الجمهور.
أما إذا كان السحر ضروبا ، ومن ضروبه السعي بالنميمة والإفساد بالحيل ـ كما