النسخ : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فقولنا : (رفع الحكم الشرعي) يخرج المباح بحكم الأصل ، فإنّ رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ ، وقولنا : (بدليل شرعي) يخرج رفعه بالموت ، والنوم ، والغفلة ، والجنون ، فإنّ الرفع فيها من طريق العقل ، وإن جاء الشرع موافقا له في مثل : «رفع القلم عن ثلاث» (١).
وقولنا : (متأخر) يخرج نحو صلّ عند كل زوال إلى آخر الشهر ، ونحو (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] وقد لا يحتاج إلى مثل هذا ، لأنّ الحكم لم يثبت إلا بآخر الكلام ، فلا يقال : إنه رفع. والنسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع طرا ، ولم يخالف في ذلك إلا اليهود ، ثم هو واقع بإجماع المسلمين ، لم يخالف فيه إلا أبو مسلم الأصفهاني (٢).
أما الجواز فأمر مفروغ منه ، لأنّا نقطع به ، لأنه لو وقع لم يترتب على فرض وقوعه محال ، ولا معنى للجواز إلا هذا ، ذلك بفرض أنّا لم نعتبر المصالح في التشريع ، أما لو راعينا أنّ التشريع قائم على أساس المصالح ، فالمصالح تختلف باختلاف الأوقات ، فما يكون صالحا في وقت قد لا يكون صالحا في كل الأوقات ، كشرب دواء في وقت دون وقت ، فلا بد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع حكم ، ثم رفعه بعد ذلك الوقت ، والأمثلة في ذلك كثيرة ومشاهدة. وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة ، وفي نفس شريعة اليهود ، فإنه جاء في التوراة : أن آدم عليهالسلام أمر بتزويج بناته من بنيه ، وقد حرّم ذلك باتفاق.
وأما الرد على الأصفهاني ، فقد أجمعت الأمة على أنّ شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ، وقد وقع النسخ في نفس شريعتنا ، فقد كانت القبلة في الصلاة أولا إلى بيت المقدس ، ثم تحولت إلى الكعبة ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة ، وقد نسخت بآيات المواريث ، وبالحديث «لا وصيّة لوارث» (٣) وعدة المتوفى عنها زوجها كانت (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) [البقرة : ٢٤٠]. ثم نسخت بآية : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤]. وإذا ثبت أن النسخ جائز وواقع فلنرجع إلى تفسير الآية. (مِنْ آيَةٍ) : تخصيص لما في اسم الشرط من العموم ، آية مفرد وقع موقع الجمع ، والمعنى : أي شيء من الآيات ننسخ ، وهي في الأصل الدليل والعلامة ، وشاع استعمالها في طائفة من القرآن معلومة
__________________
(١) رواه أبو داود في السنن (٤ / ١٣٠) في كتاب الحدود ، باب في المجنون يسرق حديث رقم (٤٣٩٨).
(٢) محمد بن بحر توفي سنة ٣٢٢ ه. من أهل أصفهان معتزلي كان عالما بالتفسير ، انظر الأعلام للزركلي (٦ / ٥٠).
(٣) رواه الترمذي في السنن (٤ / ٣٣٧) في كتاب الوصايا ، باب ما جاء لا وصية لوارث حديث رقم (٢١٢٠).