والإسلام فيما يستحقونه من حكم القتل ، ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة ، لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا. وإنما تقتل قودا.
وقد ذكروا وجها آخر في قتل الذمي الساحر ، مع أننا أقررناه على كفره وهو : أن الكفر الذي صار إليه بسحره لم نقره عليه ، ولم نعطه الذمة عليه ، إنما أقررناه على كفره الظاهر ، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر في نظير الجزية لم نجبه إليه.
ولا يظنّ ظانّ أن أبا حنيفة إنما يقتل الساحر لحرابته لا لكفره ، لأنه لو كان كذلك لأجراه مجرى المحارب قاطع الطريق عنده ، فلم يقتله إلا إذا قتل.
قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))
(ما نَنْسَخْ) (ما) شرطية ، و (ننسخ) فعل الشرط. و (نَأْتِ بِخَيْرٍ) هو الجزاء. والنسخ يطلق في اللغة بإطلاقين : يطلق تارة ، ويراد منه الإبطال والإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظلّ ، أزالته ، ونسخت الريح آثار القوم أعدمتها. وقال تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [الحج : ٥٢] أي يزيله ويبطله. ويقال تارة ويراد منه النقل والتحويل ، ومنه نسخت الكتاب ، أي نقلته من كتاب آخر ، ومنه تناسخ الأرواح ، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث.
ومنه قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)) [الجاثية : ٢٩] وفي «صحيح مسلم» (١) لم تكن نبوة قط إلا تناسخت.
فأنت ترى أنه قد ورد النسخ بالمعنيين جميعا فقال الجمهور : إنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني ، وقال القفّال بالعكس ، وزعم قوم الاشتراك ، قال العضد (٢) في «شرحه لابن الحاجب» : ولا يتعلق بهذا النزاع غرض علمي.
وأما النسخ في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد ذكروا له تعريفات كثيرة ، نختار منها الآن ما اختاره ابن الحاجب (٣) ، وندع التحقيق فيه إلى موضعه في الأصول فنقول :
__________________
(١) نسبه القرطبي في تفسيره ، الجامع لأحكام القرآن ، ط ٢ ، بيروت ، دار الفكر ، إلى صحيح مسلم (٢ / ٦٢).
(٢) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار ، متكلم أصولي توفي (٧٥٧ ه) انظر طبقات الشافعية للسبكي (٦ / ١٠٨). والأعلام للزركلي (٣ / ٢٩٥).
(٣) عثمان بن عمر بن أبي بكر ، فقيه أصولي ، توفي سنة (٦٤٦ ه) انظر وفيات الأعيان (٣ / ٢٤٨). والأعلام للزركلي (٤ / ٢١١).