الخزي في الدنيا أعظم من عذابها ، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها.
ويؤخذ من الآية أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة حيث قال : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فالحدود من الزواجر لا من الجوابر ، كما هو صريح الآية ، وقيل : إن الحدود تجبر الذنوب وتكفرها ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه» (١).
وأجيب عن الحديث بأن الآية قطعية فيجب أن يقيّد الحديث الذي هو ظني بما لا يتنافى مع الآية ، وقد قالوا : يجب حمل الحديث على ما إذا تاب عن الذنب ، فتوبته تكفّر إثم الجريمة ، وإنما أضاف الكفارة إلى العقاب في الحديث باعتبار أنّ الظاهر أن من يقع في يد الحاكم ، ويرى أنّ الحد واقع عليه لا محالة يندم على ما فعل ، ويتوب منه ، فيكفّر الله عنه إثم الجريمة ، فيكون العقاب سببا في الكفارة بواسطة.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء لإخراج بعض ما تناول اللفظ ، ولكنّه مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أما ما هو من حقوق الأولياء من قصاص أو مظلمة في مال أو غيره فهو ثابت لهم ، إن شاؤوا عفوا ، وإن شاؤوا استوفوا.
والمراد أنّ التوبة قبل القدرة عليهم لا تسقط عنهم القتل حدا ، الذي من آثاره أنه ينفّذ عليهم ولو عفا الأولياء ، ولا تسقط عنهم القتل قصاصا ، الذي أمره مفوّض إلى رأي الأولياء ، إن شاؤوا عفوا ، وإن شاؤوا استوفوا.
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥))
سبق هذه الآية بيان خطر القتل والفساد وحكمهما ، والإشارة إلى الغفران للتائبين ، فكان من المناسب أن يأمر الله المؤمنين أن يتقوه في كل ما يأتون وما يذرون ، فيتركوا المعاصي ومن جملتها القتل والفساد ، ويفعلوا الطاعات ومنها السعي في إحياء النفوس ، ودفع الفساد ، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. فقال جلّ شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ).
ثم قال : (وَابْتَغُوا) أي اطلبوا لأنفسكم (إِلَيْهِ) أي إلى ثوابه ورضاه (الْوَسِيلَةَ) أي افعلوا الطاعات ، واتركوا ما نهاكم عنه ، فذلكم وحده هو الطريق
__________________
(١) رواه البخاري في الصحيح (٨ / ٢٠) ، ٨٦ ـ كتاب الحدود ، ٩ ـ باب الحدود حديث رقم (٦٧٨٤) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٣٣٣) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ١٠ ـ باب الحدود حديث رقم (٤١ / ١٧٠٩).