قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦))
(الزحف) قال الأزهري : أصل الزحف للصبي ، وهو أن يزحف على استه قبل أن يقوم. وشبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال ، فتمشي كلّ فئة مشيا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضّراب.
وقال الزمخشري (١) : الزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنّه يزحف ، أي يدبّ دبيبا ، من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلا ، سمي بالمصدر ، والجمع زحوف.
(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم.
(إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) المتحرّف للقتال هو الذي يفرّ موهما قرنه أنه منهزم ، فإذا تبعه عطف عليه فقتله ، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها ، وهو حال من فاعل (يُوَلِّهِمْ) والاستثناء مفرّغ ، أو منصوب على الاستثناء أي (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) إلا رجلا متحرفا لقتال.
(أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) التحيّز التنحي. والفئة : الجماعة.
نهى الله عن الفرار ، وتوعّد عليه أشدّ الوعيد ، وهو أن يرجع بغضب من الله ، وأنّ مقره في جهنم ، ولم يبح الفرار إلا لاثنين :
أحدهما : المتحرّف للقتال ، وهو الذي يفرّ ، ثم يكرّ مكيدة منه وخدعة.
والثاني : الرجل الذي يرى أنّه كالمنفرد ، ويرى جماعة من المسلمين تحميه إذا انحاز إليها.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : خرجت سرية وأنا فيهم ، ففروا ، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا ، فدخلوا البيوت ، فقلت : يا رسول الله نحن الفرّارون؟ فقال : «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم» (٢) والعكارون الكرّارون العطّافون.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه : أنا فئتك.
وهذه الآية حرّمت الفرار من القتال ، وأما كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته آية (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال : ٦٦].
__________________
(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الكتب العلمية (٢ / ١٩٩).
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح حديث رقم (١٧٧٠).