والسرّ في تحويل الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم هو أنّ مقام الأمر والنهي يناسبه أن يتجلّى الإله على العباد بعظمة الألوهية وقهرها وسلطانها ، فيوجه أوامره إليهم كأنه يخاطبهم من غير وسيط ، ليكون ذلك أدخل للهيبة في قلوبهم ، وأبعث على خشوعهم وانقيادهم.
فلما انتهى أمر التكليف عطف الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فأمره أن يبلّغهم وعد الله للعاملين المخلصين ، إذ إنّ عملهم بذلك يكفي فيه أن يحدثهم به النبيّ المعصوم الذي هو الواسطة بينهم وبين خالقهم.
ويؤخذ من هذه الآية : وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو المقصود من الذبح الذي هو واجب ، ووجوب اعتقاد أنّ الله واحد ، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.
قال الله تعالى : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)) وصف الله في هذه الآية المخبتين بأربع صفات تجد بعضها مرتبا على بعض أحسن ترتيب :
الأولى : الخوف والخشوع عند ذكر الله.
والثانية : الصبر على الآلام والمشقات.
والثالثة : إقامة الصلاة.
والرابعة : الإنفاق مما رزقهم الله.
فهؤلاء المخبتون إذا سمعوا ذكر الله تحرّكت قلوبهم ، وخفقت لما وقع فيها من الهيبة والخوف من عقاب الله وانتقامه ، ولا شك أنّ هذا الخوف يحملهم على الرضا بقضاء الله تعالى ، والصبر على ما يريده لهم من الآلام والشدائد ، سواء في ذلك ما يكون في التكاليف وأنواع التعبدات ، وما يلاقون من المشقات في أسفارهم لطاعة الله كما في الحج ، وكل ما يصابون به في أنفسهم وأموالهم ، ويحملهم كذلك على إحسان الأعمال ، والقيام بما كلفهم الله إياه حقّ القيام.
والإنفاق : قيل : إنّ المراد به الزكاة المفروضة ، وقيل : إنه صدقة التطوع ، وقيل : هو عام يشمل النوعين جميعا ، وقد سبق لك شيء من هذا في أكثر من موضع ، كما أنّه سبق لك في مثل هذه الآية بيان السر في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين سائر التكاليف ، وأنّ الصلاة أهمّ التكاليف البدنية ، كما أنّ الزكاة أهمّ التكاليف المالية : لما يترتب عليهما من صلاح النفوس واعتدالها ، وسد حاجات الأمة وتقويم فقرائها وضعفائها.
وينبغي أن تعلم أنّ قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) معطوف على المقيمي الصلاة باعتبار معناه ، أي والذين يقيمون الصلاة ، وينفقون مما رزقناهم.