يراد به النسك نفسه ، ويصح أن يراد به مكان النسك أو زمانه ، وعلى كل حال فالظاهر أنّ المراد بالنسك هنا عبادة خاصة ، وهي الذبح تقرّبا إلى الله تعالى.
(فَلَهُ أَسْلِمُوا) الإسلام لله الإخلاص له في الطاعة ، وامتثال أوامره ونواهيه.
(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الإخبات الخشوع ، وقيل : التواضع. وقيل : الاطمئنان : مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض ، وهي معان متقاربة ويصحّ أن يكون ما ذكر في الآية بعده تفسيرا له.
ولا يخفى عليك أنّ قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) معطوف على قوله سبحانه : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) وأنّ تقديم المفعول فيه لإفادة الحصر.
والمعنى : أنّ الله جلّ شأنه قد شرع نسك الذبح لجميع الأمم التي خلت من قبل ، يتقربون به إليه تعالى ، ويذكرون اسمه الكريم عند الشروع فيه ، وأن ذلك ليس خاصّا بأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا ببعض الأمم الأولى دون البعض ، أو المعنى أنه تعالى قد خصص لكل أمة من الأمم مكانا أو زمنا يذبحون فيه ، ولعل سرّ الإخبار بشرع هذا النسك لجميع الأمم من قبل هو تحريك النفوس ، وبعثها إلى المسارعة إلى هذا النوع من البر ، والاهتمام بهذه القربة ، حيث إنّها قربة قد وردت بها الشرائع الأولى ، وتتابعت عليها.
وفي هذا الإخبار أيضا إشعار بأنّ أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم ، والذين كانوا يخلطون في التسمية على ذبائحهم ـ إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم ، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم ، فإنّ شرائع الله كلها قد أجمعت على أنّ التقرب بالذبح إنما يكون لله وحده ، وأنّ الشروع في ذلك إنما يكون باسمه وحده ، إذ ليس للناس إلا إله واحد ، وهو الذي رزقهم ، وشرع لهم ، وكلّفهم ، فليس لهم أن يميلوا بالعبادة إلى غيره ، فقوله تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر ، لأنّ تفرده تعالى بالألوهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح غير اسمه ، وإنما قيل : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ولم يقل فإلهكم واحد لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته ، كما أنه واحد في ألوهيته.
وقوله تعالى : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) مرتّب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله ، فإنّه متى كان الإله واحدا فقد وجب تخصيصه بالعبادة والإذعان له في جميع الأحكام ، وإفادة التخصيص ظاهرة من تقديم المعمول.
وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) فيه توجيه الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعد ما كان متوجها إلى الناس ، فالله سبحانه يأمر نبيّه أن يبلغ الناس أنّ من أذعن منهم لله ، وأخلص له العمل والاعتقاد ، فإنه يكون له أحسن الجزاء.